شعار قسم مدونات

رحلة الثماني سنوات..

Blogs-syria

إنما يكون الفقد كبيراً في بداياته، يُخلق الفقد كبيراً ثم يصغر ويصغر حتى يصبح بقايا ذكريات، لكنني لم أشعر بهذا! لم أشعر بالغياب يتضاءل بداخلي، فبرغم من أن الموت مقدر ومكتوب من الله سبحانه، فظننت أن غيابه سيكون ألم كبير يتناقص ويتناقص حتى يصبح ذكرى، لم يتضاءل الغياب بداخلي ولم ينقص. ولم أكن أعرف أن شجاعتي في الإقدام على الحياة ومواجهة التجارب الصعبة لم تكن إلا قوة وإصرار.

 

شاءت الأقدار أن أغادر دمشق التي أهواها، والتي هي مرتع طفولتي والتي عشت فيها تفاصيل وذكريات لا تنتهي. أن أغادرها إلى مخيمات تركيا بعد انشقاق أخي من جيش النظام. غادرتها وأنا أعلم أن الرجوع إليها في الوقت القريب هو أمر بعيد جداً. تملكتني كل الذكريات أصبحت مثل الطفلة التي لا تريد فراق أغلى الأشياء لديها، أصبحت دمشق كصندوق الألعاب الجميل الذي أحاول تخبأته بين ذراعي كي لا يأتي أحد ويسلبه مني. وصممت قبل المغادرة أن أتجول بالمنزل ليكون لي بين كل زواياه ذكرى، أما أزهار منزلنا كانت المفضلة بالنسبة لي لطالما أحببت منها زهرة الفل كان سحرها وجمالها يداعب نفسي.  وعند المغادرة قررت أن أجلس أراقب الطرقات وأن ألقي نظرات الوداع على كل شيء يمر أمام عيني وكل رصيف وممر.

 

رأيت دمشق ببهائها الطاغي تتمدد على الأرض، مثل حورية ساحرة، عشقتها يومها من كل قلبي، ظللت أطوف بنظري على مساكنها وهي تتهادى في أحيائها بهدوء، كانت الأضواء لب المشهد الأسطوري، تتمايل عبر بيوتها وأعمدتها وشوارعها وساحاتها كأنها راقصةٌ قادمةٌ من السماء، حلت على أهل الأرض لترسم على قلوبهم وهم يتابعون مشهد السحر نفسه فيقعون صرعى هواها.. لم أعرف يومها، ولم يكن لي من سبيل لأعرف أن هذه المدينة التي تبدو بهذا الهدوء الديباجي الرخيم، كانت تعيش فوق طبقة من الحجر الملتهب، وتستقر فوق حمم من البراكين، ربما لصغر سني لم يفصح لي والدي وربما بسبب الخوف والقمع الذي زرعة النظام في نفوسنا.. ففضل الصمت خوفاً علينا من الأعتقال أو ربما الموت ان تفوهنا بحرف ضده. حتى بداية ثورتنا المباركة بدأ والدي بأخبارنا لما أقيمت الثورة ومافعله بشار ووالده بأرضنا.

 

خمسة أعوام قضيتهم في تركيا وصلت بهم إلى النضج الذي كنت أظنه دائما أنه قرين العمر، وظننت أن الثلاثينات هي أول مراحله لكنني كنت مخطئة، لأن التجارب الصعبة وقسوة الحياة سبب لمراحل النضج

في عام ٢٠١٣ لجأنا إلى مخيمات تركيا، كانت حياة ثانية مرة المذاق، قاسية، حادة، مليئة بالمتاعب والعذاب والحزن.. لكنها بالوقت نفسه كانت مليئة بالنضج والمسؤولية والإصرار والقوة والحرية، لم ولن أنسى الأيام الجميلة الذي قضيتهم بمدرستها وبين أحيائها و"أصحابي" الذين كانوا سند وقوة لي في زمان تتلاش فيه الأشياء المجانية، كانوا كالنسمة العليلة والظل الظليل وقطرة الندى الباردة، كانوا العافية للبدن، والضياء للعين والصوت الجميل للأذن، والبسمة الرقيقة للقلب.. لم يتخلوا عني في الأزمات والشدائد وفي أصعب الأيام التي واجهتها. لا أعرف كيف انغمسنا بالمصائب والبلاء فجأة! وقعت إصابة أخي وفجرت كل الامتحانات معها، سقطت قذيفة على سيارته وتفجرت.. وبقدرة الله وعزته نجا من الموت. ولم نقدر على أن ننفك عن السلسلة تلك، وجدنا أنفسنا نغرق بداخل دوامة أكثر فأكثر. فأخي الأكبر نجا من حادث سيارة ولم ننتهي هنا، فبعد إصابة أخي المنشق عن النظام مرتين كان الاستشهاد حليفه في المرة الثالثة.

 

كان نبأ استشهاده صدمة لم أتلقا مثلها بحياتي.. تغيرت ملامحي وجمدت عيناي كأني رأيت شبح الموت منتصباً أمامي، ثم شهقت وتململت متوجعة كعصفور رماه الصياد فهبط على الحضيض مرتجفاً بالآمه، لم أستطع البكاء كان بكاء قلبي مراً قاسياً لكن الدموع التي يجب أن تسقط أرضاً ضلت طريقها للخروج وبقيت حبيسة قلبي الموجوع، غرقت عيناي في حذر من نوع يسمى صدمة الآلم، عندما رأيت دموع والدي ووالدتي الذي لم أذكر قط متى رأيتهم قبل، دموع الشباب الغزيرة هي مايفيض من جوانب القلوب المترعة، أما دموع الشيوخ؛ فهي فضلات العمر تنسكب من الأحداق، هي بقية الحياة في الأجساد الواهنة.. الدموع على وجنة الشيخوخة أشبه بأوراق الخريف المصفرة التي تنثرها الرياح وتذريها عندما يقترب شتاء الحياة، كانت والدتي أمرأة عظيمة كعادتها.. قوية وصابرة جداً كانت تبتسم والدموع تملأ عينيها وتردد الحمد الله.

 

ذهبوا والدي ووالدتي إلى بلدتنا "تفتناز" لتوديعه وإكمال لحظة وداع تليق به كشهيد، وبعد تعب وبكاء شديد غفوة قليلاً فراحت تتراءى لي مشاهد كثيرة ومقاطع سينمائية متداخلة، لحظات فرح حقيقية ومشاهد حزن قاسية.. رأيت أحمد أخي يرتدي ملابس بيضاء وعلامات الارتياح واضحة على وجهه وابتسامته الرقيقة ترتسم على شفتيه تدل على فرحة غامرة كان يوضب ملابسه على عجل كأنه مسافر إلى المكان المنتظر.. كلمتهُ كثيراً لكنه لم يجيب فقط كان يهز رأسه.. لا أعرف لماذا انتهى هذا المشهد هنا، شعرت حينما رأيت هذه الرؤى بأنني تلقيت رسالة يريد أن يخبرني بها أنه سعيد ومنتصر مقبل غير مدبر، صحوت والدمع يعصر قلبي لأنني لم أعد أراه وشعرت بعجزي عن مقاومة الحزن، لأنني لم أستطع توديعه.. أغمضت عيني ورحت أقرأ بعمق مايطمئن قلبي به وتهدأ ثائرة نفسي، وعدتُ لأقف من جديد لأن المصائب والبلاء امتحان لصبر العبد وهي علاقة حب من الله له، وإنه لشرف عظيم أن يجعله الله من هذه الفئة المباركة المعطاءة فئة الشهداء "لأن الشهادة انتصار ليست هزيمة"

 

كان أصدقائي هم القوة التي أستندت عليها فعلوا مابوسعهم لأذهب لمدرستي التي كانت أحب الأشياء لقلبي لعلي أخرج من جو الحزن المحاطة به، وكان يومي الأول بالمدرسة باستقبال أستاذة التاريخ لي كنت مميزة بالنسبة لها لأنني لطالما كنت بين فيئتين فئة المشاكسين والمرحين وفئة المجتهدين، حاولت ترسم الابتسامة على شفتي، ولكني مالبثت أن رأيت وجهها من كثرت دموعي وأبصرت عيناها محدقتين إلي فأعطتني قصاصة ورق وطلب مني أن أتفوه عمَّ بداخلي للورقة ذاتها، فلم أذكر سوا كلمات الشعر الذي كان يرددها لي أخي أحمد عندما يراني حزينة وأحيانا كثيراً يحاول أغضابي ليقوله لي.. كنت أفرح وأضحك بأعلى صوت وأحتضنه وأضربه، فابتسمت ابتسامة محزنة.. وعرفت أن هناك شيء أعمق من البحر وأقوى من الحياة والزمن والموت، وقد عرفت الآن مالم أكن أعرفه بالأمس، وشعرت وأنا في ظلمة السجن بنوع من الحرية النفسية التي تستهون الشدئد وتستصغر الأحزان، رأيت نفسي عميقة كالبحر عالية كالنجوم، وقد جئت اليوم وفي نفسي المتوجعة المنهوكة قوة جديدة وهي المقدرة على الأمر العظيم للحصول على أمر أعظم، ولم أسمح لأي شي من تقيدي لأن أخي لا يريد ذلك.

 

خمسة أعوام قضيتهم في تركيا وصلت بهم إلى النضج الذي كنت أظنه دائما أنه قرين العمر، وظننت أن الثلاثينات هي أول مراحله لكنني كنت مخطئة، لأن التجارب الصعبة وقسوة الحياة سبب لمراحل النضج، واخذتوا منها مالم أستطيع اخذه من وطني وهو التفكير بحرية وممارسة حياتي دون خوف ومقعد دراسي دون جبري للإنتماء لأي حزب.. فدخلت الثانوية وتعلمت وحفظت أجزاء من القرآن الكريم وعملت متطوعة باليونسيف والإرشاد النفسي، في الوقت الذي أعطاني وطني الجهل.. والتفكير المحدود.. والقيود والنفي والأبعاد.. والقتل والأعتقال..وعندما أردنا أن نسترد كرامتنا وحريتنا بعدما ذقنا من كأس الحبس المرير قدم لنا الجيش بأكمله.. جيوش العالم لتحتل أرضنا.. وبحار لنلجأ إليها وزاد كرمه بمنحنا اسم لاجئ..

 

عدنا لبلدنا إدلب "تفتناز" أواخر الربيع كان لوضع مختلف قليلاً لأننا لم نتأقلم بعد على صوت القصف والقذائف المستمر، أما الربيع جميل في كل مكانه ولكنه أكثر من جميل في إدلب.. تفتناز الذي تنبت الأزهار والأعشاب فتظهر في بساتين البلدة كأنها أسرار تعلمها الأرض للسماء.. ويزداد جماله أنه تخلو فيه أوحال الشتاء وغبار الصيف، كانت نفسي تتوق لزيارة قبر أخي.. واليوم، وبعدما مرت تلك الأعوام الطامسة بأقدامها رسوم تلك الأيام، الذي لم يبقى لي منها سوى الذكريات.. وأحمد ذهب إلى ماوراء الشفق الأزرق. أنه لم يعد الآن موجود بيننا لكنه موجود في قلوبنا ونستطيع أن نتواصل معه بالدعاء، وكانت إرادتي قوية في أن أكمل مسيرتي الدراسية وأن أدخل الجامعة الذي كانت حلمي الطفولي.. لطالما وقفت أمام التلفاز وأنا أراقب حركات عمي لكي أستطيع تقليده، كان بقوة الفولاذ.. ناجحاً لا يخاف أحد يهابه ويحبه الجميع، دخلت قسم الإعلام في جامعة إدلب لأقتدي به.. ولكي أسطر شهادة أخي وأخذ بثأره من خلال القلم لأنه السلاح الأعظم لمواجهة الطغاة والمستبدين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.