شعار قسم مدونات

اللغة التركية بلسان السوريين.. بين التعلم والسياسة

مدونات - تعلم اللغة

لا يخفى على أحد أن تركيا اليوم ليست تركيا الأمس، بشتى قطاعات الجمهورية التركية ومرافقها، عداك عن التسويق السياسي لتركيا كونها وقفت موقفا مشرفا مع الشعوب العربية في ظل الثورات المناهضة للأنظمة الاستبدادية، حيث كانت ومازالت الملجأ لكثير من الشباب العربي عموما والسوري بشكل خاص، نتيجة للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، لتكون تركيا أحدى الوجهات المحببة والمفضلة لدى البعض، وبين الضرورة أو الرغبة وجد المواطن العربي نفسه ضمن بيئة تشبه وطنه إلى حد كبير من حيث المعالم والأجواء، ممزوجا ذلك بغربة اللغة وجدار التواصل مع شعب يعتز بلغته ويؤمن بها، فإن كان الهدف سياسيا أو ثقافيا أو تعليميا للسفر إلى تركيا، فإن ترجمته الواقعية تكون من خلال تعلم لغة هذا البلد.

   
وبين تجاذبات الحياة هنا وهناك ومع تعدد البلدان التي يقطنها السوريون في الوقت الراهن واختلاف لغاتهم، فقد انخرطوا – كغيرهم من العرب سواء في تركيا أو أوربا الغربية أو أمريكا – بتعلم تلك اللغات، موقنين بأن اللغة هي مفتاح الدراسة والعمل والاندماج، ولعل اللافت للانتباه أن حجم الرغبة والحاجة لتعلم اللغة يختلف بالنسبة للسوري في تركيا عن مثيله في أوربا وأمريكا، فالسوري في تركيا ينظر للّغة التركية على أنها اللغة التي يجب أن يتعلمها لكونها جزءا من الاستقرار بالنسبة له، ولغة التواصل الاجتماعي والاندماج مع المجتمع التركي، وفي طيات ذلك لا ينكر القاصي ولا الداني القرب الكبير بين المجتمع العربي عموما والسوري خصوصا من جهة والمجتمع التركي من جهة أخرى، من حيث الأسماء والعادات والمعتقدات والعمق الإسلامي إلى غير ذلك من التقارب.

    

إذا كان التهجير القسري من النتائج السلبية لصفقات العالم والمتاجرة بمصير هذا الشعب السوري، فإن تعلم اللغة هو الشمعة المضيئة في وسط ذلك

إن تعلم اللغة التركية ليس هدفا بحد ذاته بقدر ما هو جسرا يتم العبور من فوقه للوصول إلى الأهداف المرجوة، فهناك الطالب الذي هُجِّر من بلده قسرا جراء حدث سياسي أو عسكري أو غيره، فوجد المرونة المناسبة في نظام التعليم التركي، ليكمل دراسته وفق نظام تعليمي مرموق من بوابة اللغة التركية، وذلك بعيدا عن التعقيدات الموجودة في نظم التعليم والعمل الأوربية الأخرى، وعلى الضفة الأخرى هناك من ترك بلده لنفس الظروف أو لغيرها، فوجد نفسه في عمق مدينة اسطنبول، ليجد فرصة العمل المناسبة له من بوابة تعلم اللغة التركية، عداك عن السياسيين وأصحاب الفعاليات والرموز والشخصيات العربية الموجودة في تركيا، وتشهد الأعداد المتزايدة في عدد المعاهد والأكاديميات المتخصصة في تعليم اللغة التركية على العدد المتزايد للطلاب السوريين خلال السنوات الثمان الماضية بنسبة تقارب 75 بالمئة من الطلاب الذين يتعلمون اللغة التركية في تركيا، إضافة للذين يتعلمونها بشكل ذاتي، مستعينين بمواقع التواصل الاجتماعي من دروس وغيرها، وإذا ما تم استثناء الدورات المجانية التي تقام، فإن تعلم اللغة التركية ليس بالمجان، بل يدفع طالب اللغة تكلفة مقابل ذلك، مما يتطلب منه مجهودا معنويا وماديا.

 
بينما بالمقابل تجد أن السوريين في أوربا والذين هم بالأصل وصلوا هناك بحثا عن الملاذ الآمن، أقل حافزا ورغبة لتعلم لغة البلد الذي هم فيه، وخاصة كبار السن، مع عدم إنكار أصل الحافز الموجود لديهم، وقد يرجع ذلك إلى اختلاف العادات والتقاليد، واختلاف الدين وطريقة التربية الأسرية للمجتمع المحيط والقوانين، وما يعانيه السوري من الروتين القاتل في تلك البلدان، والجدير بالذكر أن البُعد عن الوطن يترك بالنفس أثر الحنين للوطن، أو على الأقل لدولة جارة مثل تركيا تجمع بين العمق الإسلامي مع التقدم التكنولوجي وتشابه بالتقاليد، وكما هو معلوم أن تعليم اللغات للسورين في تلك الدول يكون ضمن برنامج تمهيدي مأجور، وهو مصدر دخل أساسي لكثير من السوريين، الشيء الغير موجود لمن يتعلم اللغة في تركيا، ليجد القارئ بنفسه الفرق بين تعلم اللغة التركية في تركيا وما يصحبها من همة وإرادة وتكلفة من جهة، وتعلم اللغات الأخرى في الدولة الأوربية الغربية بحكم القانون وما يصحبها من إطالة فترة التعلم، والمكاسب التي يحصل عليها السوري نتيجة ذلك من الجهة الأخرى.

 
لقد قدَّم السوريون في تركيا ومازالوا يقدمون نموذجا رائعا بسعيهم لتعلم اللغة التركية، وتحولهم من متعلم إلى مترجم للغة التركية، فإذا كان التهجير القسري من النتائج السلبية لصفقات العالم والمتاجرة بمصير هذا الشعب، فإن تعلم اللغة هو الشمعة المضيئة في وسط ذلك، وهي من أولى الاستثمارات البشرية، والبوابة لفهم وإدراك طبيعة البلد المستضيف، وقد لا تكون اللغة التركية لغة عالمية رسمية، ولكنها لدى البعض هي اللغة الأهم بعد اللغة الأم، وما ينطبق على السوريين المهجرين ينطبق إلى حد كبير على غيرهم ممن عاشوا أو يعيشون الاغتراب والتهجير كالعراقيين والفلسطينيين واليمنيين وغيرهم. سُئل أحدهم عن أفضل ما يتم استثماره في بلد قدمت إليه جديدا فقال: تعلم لغة البلد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.