شعار قسم مدونات

لا حل في فصل الدين عن الدولة

blogs - Secularism

ما يزال علمانيو العالم الإسلامي والعربي يدعون أن فصل الدين عن الدولة شرط رئيس لأي نهضة حضارية جديدة تطمح لها هذه الأمة، إذ إن الدين في نظرهم نقمة أنّى كان، فهل نجد لادعاءاتهم ما يعززها علميا وعمليا؟

 

إن فصل الدين عن الدولة وهو شعارهم الدائم أول التزوير، فالصيغة الأصلية – كما يؤكد التاريخ – هي " فصل الكنيسة عن الدولة " وهو شعار رفع ضد الكنيسة في عصور النهضة بعد ما مارسته على الشعوب الأوروبية من استبداد وجور على أرواحهم وأنفسهم وأموالهم، إذ كانت الكنيسة تدعي أن الله يحكم العالم من خلالها، فأحلت لنفسها السيطرة على الجانب المادي والروحي لحياة الناس، ونصبت نفسها فوق كل سلطة سياسية، واعتبرت أنها أعلى سلطة، فكانت تعلن الحروب وتفرض الضرائب وتوزع صكوك الغفران بالمقابل وتبيع قطعا من الجنة، فيبقى الإشكال أوروبي المنشئ والمصدر مستوردا عنوة، فهل يمكن إسقاطه على واقعنا؟ هذا في حين صارت مجمل العلوم الاجتماعية تؤكد أن لكل مجتمع خصوصياته وظروفه التي تنتج إشكالاته وقضاياه والتي لا يمكن إسقاطها على مجتمع آخر لاختلاف خصوصياته وظروفه، هل نجد في قضيتنا ما يعزز هذا الكلام؟

 

فصل السياسي عن الديني أو فصل الدين عن الدولة لا يمكن أن يكون مخرجا من أي أزمة في العالم الإسلامي، بل هو مدخل لأزمات تمس بمقومات الاستقرار الجماعي

إن ما أغفله أصحاب هذا الطرح وهم يحاولون إسقاط هذه الإشكالات على واقع البلدان الإسلامية هو محاولة التأصيل السياسي بالديني، إذ إن الأزمة في المسيحية أزمة بنيوية راجعة إلى بناء المسيحية الذي اعتزل كل ما هو سياسي منذ النشأة بخلاف الأزمة أزمة المسلمين التي كانت نتاجا لمسارا تاريخي. فالمسيحية كما لاحظ الدكتور محمد مختار الشينقيطي وباحثون قبله لم تنشأ في فراغ سياسي، بل نشأت في ظل دولة قوية نافذة، فانصرفت إلى الشأن العقدي للناس وتجردت عن كل ما هو سياسي من اللحظة الأولى، ويؤكد هذا ما نقلته المصادر التاريخية، إذ فصل عيسى – عليه السلام – في هذا بقوله " أعطوا ما لقيصر لقيصر، وأعطوا ما لله لله " فكانت المسيحية بذلك دينا بلا دولة، فقد نشأة من داخل دولة قوية وهذا ما عبر عنه الباحث بقول " لم تنشأ في فراغ سياسي ".

 

هذا في حين نجد أن الإسلام – على نقيض المسيحية – دين ودولة، فقد نشأ في ظل فراغ سياسي وقانوني كانت تعرفه الجزيرة العربية، وحيث أن الإسلام جاء بمجموعة من القوانين لتنظيم العلاقات الاجتماعية في ظل هذا الفراغ، كان من الطبيعي احتياجه لسلطة سياسية تضمن احترامها ونفاذها وتدافع عن كيانه ووجوده أساسا، وبالمقابل نظر لمجموعة من القيم تضب هذه السلطة وتوجه بوصلتها توجيها سليما ومن أهمها كما يرى بعض الباحثين العدل والشورى، وإلا فقد اختلف الباحثون في تعدادها وحصرها بين من يرى أنها لا تتجاوز عشرا وبين من يرى أنها تتجاوز الثلاثيين، فكان الإسلام غنيا بالقيم السياسية نظريا خلافا للمسحية التي ظلت فقيرة على المستوى النظري، فمن حيث المبدأ لا يمكن أن تنقطع علاقة الديني بالسياسي بوفاة محمد صلى الله عليه وسلم كما يرى البعض – لما بيناه.

   

إن أزمة الديني والسياسي كانت ممكنة التوقع من أول احتكاك بينهما، وقد ظهرت بوادره بداية في مجمع نيقية حيث دعت الكنيسة الى أن تظل الجهة العليا في الإمبراطورية، إذ لم تقدم المسيحية أي ضمانات لعدم استبداد السياسي أو على الأقل قيودا تكبح جوره، " فكل سلطة مفسدة وكل سلطة مطلقة مفسدة مطلقة " كما يقول مونتيسكيو، فكانت الأزمة إجابة واقعية لسؤال لم يطرح نظريا، وبالمقابل فإن الأزمة في الإسلام كانت نتاجا لتضيع هذه القيم، فانعدام العدل وتجاوز الشورى في محطات تاريخية كان أولها مع معاوية بانقلابه على نظام الخلافة الذي جسد هذه القيم وتحويله إلى ملكية لوح بأزمات في الأفق، إن فشل المسلمين – كما لاحظ باحثون – في نقل هذه القيم السياسية من قيم أخلاقية ( يعود احترامها إلى ورع وضمير السياسي ) إلى قيم دستورية ممأسسة كان لابد وأن يفضي إلى أزمة استبداد إن صح التعبير في مرحلة ما.

 

إذا كان الخروج من أزمة الاستبداد الكنسي كان يستدعي إحداث القطيعة بين الدين والسياسة، فإن استبداد السياسي في الواقع الإسلامي – الذي لا يمكن فيه الحديث عن مؤسسة مقابلة للكنيسة – لا مخرج منه إلا بمأسسة القيم السياسية الإسلامية كما أسماها الشينقيطي، وتاريخ الحضارة الاسلامية يؤكد هذا. إن فصل السياسي عن الديني أو فصل الدين عن الدولة لا يمكن أن يكون مخرجا من أي أزمة في العالم الإسلامي، بل هو مدخل لأزمات تمس بمقومات الاستقرار الجماعي لهذه الجماعة الإنسانية، وحيث أنه لكل فعل دائما ردة فعل، كان من الطبيعي تاريخيا أن تنتفض الشعوب دوما ضد كل محاولة لإقامة هذا الفصل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.