شعار قسم مدونات

تأشيرة إلى الداخل

blogs تفكير تأمل

جميعنا -ربما- نضيقُ من المحيط التقليديّ، لربّما في قرارةِ أنفسنا نشتهي تأشيرةَ سفرٍ إلى خارجِ الصَدَفَةِ التي وُلدنا فيها واعتدنا العيش فيها، قد تكون محاولةً منّا لكسرِ روتينٍ ما أو لتجربةٍ جديدةٍ نحظى بها لنُثريَ مخزوننا الفكريّ ربّما أو العلميّ أو حتى مخزون السعادة أو الجنون أحياناً، كلٌّ حسب حاجته ومراده.
 
وأنا فردٌ من هذا الجميع، لربّما أنّي شعرت بالملل من هذا المحيط، أو أنّي رأيته لا يناسب رغباتي وشهواتي، أتعبني حالهُ ورأيتُ أنَّ ما يقدّمهُ لي يجعل يدايَ مقيّدةً أكثر بدلاً من أن يطعمني لقيماتٍ من الحريّة والسعادة أسدُّ فيها جوع نفسي لوجبةِ فطرتها، حقّاً فقد أفقدني هذا المحيطُ وجبةَ الفطرة، لكن أتعرفون؟! في الحقيقةِ لم يكن المحيط هو الذي أفقدني إياها، لكنّي رأيت أن أسهل خيارٍ هو لوم أي شيءٍ غيري، فكان المحيط الذي حولي هو المتّهم الأسهل.

دارت الأيام ووقفتُ أمام القاضي، في الحقيقةِ لقد ألِفتُ هذا المشهد وألفت القاضي، فلطالما مَثَلتُ أمامه في مقام المشتكي أشتكيه المحيط القاسي وأفراده الأنانيّون الذين سببوا ليَ المتاعب والأذى، ودائماً كنتُ أربح القضيّةَ بمراوغةٍ من هنا وتحايلٍ من هناك وبعضٍ من الاستعطاف، ثمّ تنتهي القضيةُ بالحكم لصالحي فقط، لكن لا شيء يتغيّر، فالمحيط المسكين ثابتٌ لا يمكنه أن يتغيّر وليس له أيُّ ذنبٍ في الأصل، وإن كان -فَرَضاً- فهو لا يستطيع تغيير نفسه فهكذا خُلِقَ بكلِّ تفاعلاته، بأفراده وظروفه وأفكاره وتقاليده وأحيائه وجماداته.

    

المحيطُ ليس زئبقيّاً ليّناً، إنّما هو ثابتٌ بكلِّ أساساته، أنت الذي فوقه، فأساس البناء لا يتغيّر أو يتعدّل إنّما هو البناء الذي فوقه، الذي جُبِلَ منذ نشأته على التقلّب والمرونة

آخرُ قاضٍ مَثَلتُ أمامه لم يكن مُبتعثاً من جماعةِ البسطاء، لقد كان قاضيَ جناياتٍ كبرى، أرعبتني كلُّ تفاصيله، روبهُ المزركش، نظّارته المستديرة، تجاعيد وجهه، لقد كان مُثُولاً مختلفاً تماماً من أوّله وحتى قبل أن يبدأ، وكعادتي قدّمتُ إفادتي ضد المحيط المسكين وأنا أرتجف، وفجأةً وإذ بالقاضي يقول بأنّه إن كنتُ كاذباً فيما ادّعيتُ فالحكم سيكون عليَّ بالإعدام، تعرّقتُ وخفق قلبي بشدّة فتأنيّت، وعندما راجعت نفسي للحظاتٍ رأيتُ بأنّي على شفا مشنقةٍ تلفُّ رقبتي.

بكلِّ بساطةٍ يا صديق، لقد كان القاضي هو هواي ورغباتي وشهواتي، والادعاء هو أيُّ مشكلةٍ كنت اختلقها مع هذا المحيط، هي كلُّ شيء لا يلبّي رغبتي ولا يُشبع هواي، ولكن عندما جاء قاضي العدل الذي هدّد بحكم الإعدام، القاضي الحق، وهو مفترقُ طرقٍ مفصليٍّ مصيريٍّ، أجبرني على التوقف قليلاً والنظر إلى الوراء مليّاً وبتمعّن ومراجعة الحسابات والقضايا كثيراً.

يا صديق، المحيطُ ليس زئبقيّاً ليّناً، إنّما هو ثابتٌ بكلِّ أساساته، أنت الذي فوقه، فأساس البناء لا يتغيّر أو يتعدّل إنّما هو البناء الذي فوقه، الذي جُبِلَ منذ نشأته على التقلّب والمرونة، لذا فمن السهل عليه الانتقال والهجرة وخوض التجارب في محيطاتٍ أخرى.

أمّا أنا فلقد كانت هجرتي إلى الداخل، لقد قطعت تذكرةً إلى داخلي، تأشيرةٌ إلى الداخل، هي ما كنت أحتاجه، لقد زرتُ معالم نفسي كلّها وقرأت بشغفِ الطفولة ما كتب على جدرانها، لقد تسلقّت جبالها وسبرتُ أغوارها،  وتواعدنا أنا ونفسي على شاطئ بحرٍ عذب، نعم عذب، لقد اكتشفت أن حلاوة النفس تجعل الملح الأجاج عذباً، كانت ليلةً صاخبةً، مليئة بالعتاب المُثقل بدموع الشوق، لقد أوسعتني توبيخاً ولوماً على إهمالها وعدم الاكتراث لها، كم كان في جعبتها وجباتٍ من السعادة تُشبع فطرتي!! كم كان قاموسها شاملاً!!

 

فقد أضفى على كلِّ المحيطات معاني الجمال والراحة والسكون والهمّة والإنجاز والرضى والفرح والحزن الذي أوصفه بالحزن الصحيّ الإيجابيّ، لقد مَسَحَتْ ركام الغبارِ فوق جفوني وأرتني الحقيقة، أرتني ذلك المحيط نفسهُ الذي كنت أسخط عليه، لقد رأيته بمنظار الرضى والاقتناع، لقد ترجمتهُ بكلِّ تفاصيله إلى لغتي التي أسعد بها، ولكنّي لا أقول بأنّها حرّفت فطرتي أبداً، إنّما هزّتها وخضتها حتى جعلتها في مكانها الصحيح.

   

لا تحبس نفسك بين جدران الغفلة وظلم النفس وخداعها سواءٌ أكان بعلمٍ أو بغير علم، فلم يُخلق الكون بكلِّ تفاصيله وموجوداته بهذه السعة والتنوّع لتعيش أبدَ الدهر في الضيق أيّاً كان شكله
لا تحبس نفسك بين جدران الغفلة وظلم النفس وخداعها سواءٌ أكان بعلمٍ أو بغير علم، فلم يُخلق الكون بكلِّ تفاصيله وموجوداته بهذه السعة والتنوّع لتعيش أبدَ الدهر في الضيق أيّاً كان شكله
   

لقد أصبحَ القاضي خاصّتي الذي كان مُبتعثاً من جماعة البسطاء قاضياً عادلاً، ينظر بعين البصيرة، لقد أدّى الحقوق وفرض الواجبات دون جورٍ أو ظلم، أعطى لنفسي حقّها ومستحقّها، أشبعها بعد مجاعةٍ دامت لسنواتٍ عجاف، ثمَّ إنّي صنعت إطارات تُبهجني وترضيني ووضعت كلَّ صورةٍ في محيطي في إطارها الخاص، ياه كم بدت أجمل وأبهى في إطاراتها التي صنعتها على النحو الذي يرضيني.

في داخلي يا صديق عقدتُ اجتماعاتٍ مع نفسي وضعنا فيها النقاط على الحروف لكلِّ مشاريعي وعلاقاتي، وأعطيتُ كلَّ مشروعٍ الميزانيّة المناسبة التي تعود عليَّ بالنفع والربح ولكن دون أن تُفقِرَني أو تُفرِغَني، كذلك فقد وضعنا معاً منظومة التربية والتعليم التي سنخضعُ لها كلانا، منظومةٌ تُهذِّبني وتُهذِّبُها، ترشدني وترشدها، منظومةٌ تقوم على عتاب المخطئ وتذكيره بالمعايير الساميّة الخالدة المنجية، منظومةٌ دستورها القرآن، والمعلّم هو خاتم الأنبياء محمدٌ عليه الصلاة والسلام.

يا صديق، لا تحبس نفسك بين جدران الغفلة وظلم النفس وخداعها سواءٌ أكان بعلمٍ أو بغير علم، فلم يُخلق الكون بكلِّ تفاصيله وموجوداته بهذه السعة والتنوّع لتعيش أبدَ الدهر في الضيق أيّاً كان شكله، ولا تخشَ شبح الأنانيّة، فالوعاء إن لم يمتلئ فكيف سيفيض؟!!!

ها أنذا يا صديق وقد عدتُ من الداخل إلى محيطي الثابت الذي لا يتغيّر، لكنّي عدتُ بنظرٍ حادٍّ ثاقب، وبخطّةٍ موزونةٍ مدروسةّ بدقّةٍ وفق معاييرٍ جليلة، عدتُ ومعي قاموسٌ لكلِّ اللغات حتى أفهم كلَّ موجودٍ بلغته الخاصة، وأتحاور وأتسامر معه دون حاجزٍ أو عائقٍ بيني وبينه. لا تبخل على نفسك تلك الرحلة إلى أعماق داخلك وموطن نفسك، فلا محيط سيقبلك ولا محيط سيفهمك إذا لم تتقن لغته، ولا سبيل إلى ذلك إلّا أن تتقن لُغتكَ أولاً، ثمَّ من خلالها تتقن باقي اللغات، فتصبح جميع تعاملاتك ذات معنى، ويصبح للحياةِ أسمى المعاني بإذن الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.