شعار قسم مدونات

أوضاع وآفاق الحراك في الجزائر.. قراءة من أوساط الشعب

blogs الجزائر

انطلقت نهاية الشهر الفارط الانتفاضة الشعبية الأكبر منذ استقلال الجزائر في العام 1962، الفاتح من مارس 2019 كان بالنسبة للشعب يوما ً تاريخيا.. الجزائر العاصمة تشهد أكبر حراك شعبي في تاريخها، حراك أذهل العالم بسلميته وتنظيمه المحكم وشعاراته ومطالبه الموحدة والأغرب من هذا كله أن لا حزب ولا أي طرف سياسي استطاع أن يتبنى الحراك أو يحتويه سوى الشعب! الشعب وحده كان هو البطل…

 

عبارة أعادت للشعب روح نوفمبر 1954 وأمجاده: un seul hero… le peuple! خصوصا بعد انضمام أيقونة الثورة المجاهدة جميلة بوحيرد للمتظاهرين وسقوط أو شهيد في المظاهرات وهو ابن المناضل بن يوسف بن خدة رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة الذي ترأسها في سبتمبر 1985.. شخصيات لها وزنها وشعارات لها دلالاتها تؤكد أن ما نمر به من أحداث هو فعلا ً ما يمكن أن يوصف بأنه "تاريخي"، فما الذي حدث بالضبط ولماذا هذا التغيـّـُـر المفاجئ في المشهد داخل الجزائر؟ 

ماذا حدث؟!

إن الفئة التي تحركت هذه الأيام هي التي تعرف لدى الشعب الجزائري بـ"الأغلبية الصامتة"، هذه الفئة التي قررت أن تخرج اليوم عن صمتها بعد الغياب عن المشهد السياسي منذ العام 1992، هذه "الأغلبية" تضم جيلين من أبناء الجزائر: أولئك الذي شهدوا انقلاب 1992 فقرروا بذلك مقاطعة كل عملية سياسية بعده كتحد ٍ للنظام وسبيل لعدم إضفاء "الشرعية" عليه، وكذا أبناء الجيل الثاني من شباب اليوم الذين ورثوا "ثقافة المقاطعة" عن أبناء الجيل الأول وازدادوا بها تمسكا ً في كل مرة يطلع فيها وزير أو رئيس سابق أو زعيم حزب أو مناضل كبير في حزبي السلطة ليعلن عن "عدم نزاهة" الانتخابات في فترة من الفترات أو يطعن فيها كليا ً بشكل مباشر أو غير مباشر. 

الأهم حتى الآن عند الشعب هو خلط حسابات الجماعة -المحيطين ببوتفليقة مثلما ذكرت- في الداخل وهز صورتها وإحراجها أمام حلفائها والمعولين عليها في الخارج بعد أن أبانت "الأغلبية الصامتة" عن موقفها

هذه الشريحة التي توصف بأنها الأكبر في المجتمع الجزائري قررت اليوم الخروج عن صمتها، ورغم أن الوضع يشبه كثيرا ما كان عليه في 2014 عند ترشيح بوتفليقة لعهدة رابعة، إلا أن كسر حاجز الصمت يعود لمجموعة من التغيرات لم يحسن قراءتها من ينادي اليوم بالعهدة الخامسة وهي بالدرجة الأولى الوضع الصحي لبوتفليقة نفسه، حيث أن الجميع في نهاية العهدة الثالثة كان يرجو تحسن حالته الصحة ويظن أنها وعكة فقط قد يتعافى بعدها سريعا، هذا من جهة، بالإضافة إلى تخوف الأغلبية الصامتة من الحراك في ظل ظروف إقليمية ودولية جد مضطربة. إلا أن حاجز الخوف هذا قد كسر فالشارع اليوم يرى أن عواقب الصمت في الوضع الراهن أشد خطورة من أسبابه. 

بعد تقدم الحراك وإثباته لقوته وتماسكه ميدانيا بدأت مجموعة من ملامحه ترستم: تجد الأغلبية التي لم تعد صامتة نفسها الآن أمام ثلاثة عقبات رئيسية: أوّلها "العهدة الخامسة" لبوتفليقة، ثم "الجماعة" المساندة لبوتفليقة والتي تتحدث اليوم وتسير باسمه، وآخرها "النظام" ككل. العقبتان الأولى والثانية هي الأهداف الرئيسية للحراك الذي يرمي إلى ابعادها بشكل كامل من المشهد السياسي، أما النظام فيظل محل نقاش وجدل واسعين في أوساط الشعب. 

ميدانيا، بدأ الحراك بالدعوة إليه على مواقع التواصل الاجتماعي التي صارت معاملا أساسيا في المشهد، ثم ظهر للعلن بقوة وبشكل غير مسبوق يوم 22 فبراير الفارط، ثم انضم إليه خلال الأسبوع الموالي طلبة الجامعات والمحامون والبرلمانيون والجزائريون في المهجر، ثم اشتد الحراك ليتضاعف عدد المنضمين له ويظهر بقوة أكبر في موجة ثانية يوم الجمعة 01 مارس 2019. لقد أثبتت الموجة الثانية من هذه الانتفاضة أن الضرر الوحيد في مثل هذه الحالات لا يمكن أن يكون له من مسبب سوى النظام، الملايين خرجت دون أن يكون هناك أي إخلال بالنظام العام أو إتلاف لأي من الممتلكات العامة أو الخاصة.

 

ما هو الشيء المختلف داخل الحراك هذه المرة؟

المختلف طبعا هو ورقة "السلمية" التي أصبحت ورقة ضغط ضد الجماعة، لكن هذه السلمية ليست ورقة رابحة بالقدر الذي نظن كونها لا ترتبط فقط بفعل المتظاهرين أنفسهم بل بـردة فعل النظام كذلك، وهذا واضح وجلي ومـُـسلـّـَم به لدى كل متابع للأحداث في الدول المجاورة فما هُم ْ منا ببعيد من قالوا: "سلميتنا أقوى من الرصاص"، وقد بدا لهم بعدها من المتربصين بهم ما لم يكونوا يحتسبون! 

إن إهمال هذه الحقية لدى الجماهير يظل أمرا مثيرا للريبة.. لكن الجيد في الوقت نفسه هو تمسك أطراف داخل النظام بشعارات مثل: "الجزائر بلد الأمن والاستقرار" وكذلك: "أمن الجزائر خط أحمر"، هذا التمسك هو الذي سمح بخلق التوازن الذي نراه والحفاظ على سلمية الحراك الشعبي بالإضافة إلى الأوضاع المتأزمة في الدول المجاورة والسيناريوهات التي مرت بها.. سيناريوهات يظهر أن النظام الحالي يريد تجنبها. دول كبرى كذلك ربما قد تتضرر من تأزم الوضع في الجزائر لذلك فهي تضغط للحفاظ على الهدوء عندنا.

إذن فالرهان في المرات السابقة ربما لم يكن متعلقا ً بالدرجة الأولى بالوعي المتشكل لدى الجموع بل في وحدة مطلبها القائل: "لا للعهدة الخامسة" وفي عزمها على تفويت الفرصة على المتربصين بها من الذين يريدون أن يجدوا مبررات لسيناريوهات أخرى وانزلاقات لا يريدها الشعب وكذا تماشي هذه العزيمة مع مصالح أطراف محلية وأجنبية مثلما ذكرت. 

ما هي المكتسبات التي تحققت

الأهم حتى الآن عند الشعب هو خلط حسابات الجماعة -المحيطين ببوتفليقة مثلما ذكرت- في الداخل وهز صورتها وإحراجها أمام حلفائها والمعولين عليها في الخارج بعد أن أبانت "الأغلبية الصامتة" عن موقفها وقالت بوضوح إنها لم تعتزل السياسة ولم تغادر المشهد بل هي تتحيّن الفرصة المناسبة لتضرب بقوة وتحقق مكاسب أكبر تجعل الجزائر تتحر من قيود ٍ قديمة لاتزال تكبلها وتعرقل تقدمها. 

المرحلة القادمة

بعد كل هذا ونظرا لكون استراتيجية الطرف الجماعة التي تراهن أيضا ً على السلمية -النظام- استراتيجية غير متضحة المعالم يمكننا القول إن التظاهر لا يمكن أن يكون خيارا استراتيجيا ًعند الشعب. فماهي إذن الخطوة التالية التي يمكن أن يتبناها؟ يجب أن لا يستفز إصرار الجماعة على ترشيح بوتفليقة أبناءَ الشعب ولا يجره إلى ردات فعل سريعة غير مدروسة… فترشيح الرئيس المنتهية ولايته مرة ً أخرى كان متوقعا، وقد لا يكون في الواقع تحديا ً للشعب بقدر ما هو ورقة يجب على الجماعة لعبها حتى لا تكتسب الجماهير ثقة أكبر ولا ترفع من سقف المطالب، فإن هي عدلت عن ترشيحه فالجماهير ستندفع وتثبت وقد تكون مطالبها لاحقا: محاسبة بعض الرؤوس، اسقاط النظام برمته… وهو ما تخشاه الجماعة. 

إذن فالأهم ليس هذه السيناريوهات التي قد تُنسَج لنا اليوم بقدر ما يهم المحافظة على وحدة الحراك وإعطائه دفعة أكبر بتشكيل واجهة تتحدث باسمه وتدوّل مطالبه بشكل واضح وكذا تنويع وسائل النضال وهو ما يظهر لنا في الأفق من خلال الأصوات المنادية بإضراب عام قد يرقى إلى "عصيان مدني" أو التصويت بقوة في انتخابات 18 أفريل المقبل على مرشح واحد من بين المقدمين في القائمة التي سيعلن عنها المجلس الدستوري حتى يكسب هذا المرشح "شرعية" وثقة تسمح له باتخاذ قرارات سيادية تسمح للشعب الجزائري بتحقيق مكتسبات جديدة تحرره أكثر من قيود "التبعية" مثلما حدث مع الرؤساء السابقين: حملة التأميمات، التعددية الحزبية، فتح الفضاءات الجامعية، تطوير أسلاك الأمن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.