شعار قسم مدونات

أن تكوني أماً في اليمن

blogs اليمن

إنني أبدأ يومي بالتفكير في أنه قد يكون الأخير لي، لذا أحاول أن أتجاهل مصادر الإزعاج والمسائل التافهة وإلقاء التحية على الجميع كما لو كانت المرة الأخيرة التي نرى فيها بعضنا بعضا، لأننا، وعند أي لحظة قابلون لأن نصبح محض أرقام في سجلات هذه الحرب.  حتى هذه اللحظة سأكون قد قضيت 29 عاما من حياتي في الحديدة، على الساحل اليمني الغربي. ولدي الكثير من الذكريات هنا، عائلتي والبحر والناس، اللطف العارم، والياسمين العربي ومذاق الأطعمة البحرية الشهية. كلها أشياء أخذتها الحرب.

  

أرى الناس يمشون في الشوارع بقلوب مثقلة، في جعبة كل واحد منهم حكاية حزينة عن فقدان شخص عزيز، وضيق سبل العيش أو مرض لا يجدون لعلاجه سبيلا.  منذ اندلاع القتال في الحديدة والحياة فيها مهمة شاقة، لكن الأشهر الست الفائتة كانت الأسوأ.  مع اشتداد القتال، استأثر الجوع واليأس والموت البطيء بالمدينة. في المشفى الحكومي الوحيد الذي لا زال يعمل، وجدت أن أكثر من 600 طفل يعانون سوء التغذية. لقد تضاعفت أسعار الأدوية. وكان الحصول على العلاج لمرضى السرطان والفشل الكلوي والأمراض المزمنة، أمرًا غاية في الصعوبة، وبالتالي كان هناك احتمال الموت بسبب تأخر شحنات الأدوية.

 

بدأ الاتصال بالإنترنت ينقطع، في البداية لأيام معدودة، ثم طيلة أسابيع. ولم يكن هناك ما نفعله في البيت، لذا فقد عدنا نقرأ الكتب ونشاهد التلفاز. ثم بدأ انقطاع الكهرباء ولم نتمكن من القيام بأي شيء في هذه الحالة أيضا. في البداية، تقبلنا الأمر بهدوء. كنا نضيء بعض الشمع ونستمتع بدفء ضوئه الوامض. حتى إننا كنا نشغل بعض الموسيقى عبر هواتفنا المحمولة، وإن كان صوت القصف الثقيل يفوقها.  مع اختناق المدينة بالحصار، لم يعد هناك ما يمكن أن يصرف أنظارنا عن حقائق الحرب: فلا شواطئ، ولا منتزهات، ولا مطاعم، ولا اتصال بالإنترنت. لقد أصبحنا بين عشية وضحاها في عزلة عن العالم. بدا الأمر كما لو أننا نعيش على سطح كوكب آخر، كما لو أننا نخسر إنسانيتنا شيئا فشيئا.

   

  

في أحد الأيام، قررت الذهاب إلى البحر مع زوجي. واعتقدنا أننا سنكون وحدنا المغفلين بما يكفي للتفكير بهذا الأمر، لكن اتضح لنا كم كنا مخطئين. كان الشريط الساحلي الصغير المتاح مكتظا بالناس. وكان القصف قريبا جدا في ذلك اليوم، لكن بدا أن الجميع قد قرر تجاهله. كان الناس هناك ينظرون إلى البحر، دون رغبة أي منهم بالرحيل. اشتد القصف وكان بوسع شظاياه الغادرة أن تضرب قلب المدينة، وتسلب أرواح الرجال والنساء والأطفال بلا تمييز وبشكل يومي.  

  

في أحد الأيام، تأخر ابني عمار البالغ من العمر 11 عاما بالعودة من المدرسة. ومع أنني حاولت أن أتحلى بالهدوء، إلا أنني لم أستطع التوقف عن التفكير في الشظايا أو كمية الانفجارات التي سمعت دويّها، دون أن أصرف احتمال سقوطها على طفلي وهو عائد إلى البيت.  لفترة من الوقت، استحوذت على تفكيري فكرة واحدة: لا مزيد من الأطفال الضحايا. كنت قد قررت عدم إنجاب المزيد من الأطفال إلى هذا العالم الوحشي بحيث لا أراهم قرابين على مذابح الحرب العبثية.

 

في نوفمبر/ تشرين الثاني، غادرت اليمن لشهر تقريبا. وشعرت في الخارج بأنني أفقد عزيمتي. لم أكن في الحديدة أشعر بمثل الكآبة التي شعرتها في الخارج. لم يكن يبدو لي أن من العدل أن يواجه الناس الذين تركتهم ورائي الحرب بمفردهم، وكنت أخشى خسارتهم.  كنت في الأردن للتدريب في مجال الصحافة الإنسانية. وبينما أنا هناك، سمعت لفيفا من الصحفيين اليمنيين عن محادثات السلام القادمة، والتي تمكنا من السفر إلى السويد لتغطيتها.

  

كوني الصحفية الوحيدة الآتية من الحديدة، تلقيت الكثير من الاهتمام. ولم أتمكن من فصل عملي كصحفية عن حياتي هناك، فواصلت سؤال جميع المسؤولين والصحفيين عما يعرفونه عن وقف إطلاق النار في الحديدة. لقد أردت إجابة شافية، لكنني لم أحصل عليها.  تمكنت من لفت انتباه مبعوث الأمم المتحدة وسؤاله: "إلى أي حد تبدو الأطراف المتعددة جادة بشأن وضع حد للمعارك الدائرة في المدينة؟" فأجاب على سؤالي بسؤال آخر: "هل جئت من نفس المدينة؟" وأومأت برأسي نعم، فأجاب، "إذا، فلا بد أنك قلقة بالفعل حيال المسألة". لقد كان قلقا هو الآخر. لكن ما أحبطني أنه لم يقل المزيد.

    undefined

  

في اليوم الأخير، أخذت الأمور منعطفا غير متوقع. وعلى عكس كل التوقعات، تم التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار. وبدأت تتحقق الأحلام التي لم أعتقد يومًا أنها ستتحقق. في مخيلتي، رأيت أمي وأشقائي وهم يعودون إلى الحديدة بعد خمسة أشهر من النزوح، ورأيت زوجي وهو يعود إلى عمله في شركات مستحضرات الأدوية التي سرحت عامليها بسبب الحصار، رأيت طفلي وهو يعود إلى المدرسة ويلعب رفقة أصدقائه دون تهديد القنابل، ورأيتني أنا أحظى بطفل آخر، طفل لن يعرف الحرب. هاتفت زوجي على الفور، وكنت قد أنفقت كل مدخراتي المالية في السويد على مكالماتي الهاتفية بالنظر لعدم وجود اتصال بالإنترنت في اليمن. كنت سعيدة جدا، وأخبرته عن الاتفاق. تكلمنا بحماس عارم حتى نفد رصيد اشتراكي. بعد إنهاء المكالمة، بعث لي برسالة نصية غير مصدق لما قلت: "هل أنت واثقة من أنهم أعلنوا وقف إطلاق النار، أم استمرار الأعمال القتالية؟!!"

 

لقد رفضت كل النصائح من أفراد عائلتي وأصدقائي بطلب اللجوء إلى أوروبا وعدت إلى اليمن. استغرقت الرحلة أربعة أيام، بما أن الطرق والمعابر الرئيسية كانت مغلقة. لكن مع دخولي إلى الحديدة، أدركت كم افتقدت حياتي المخيفة والممزقة فيها. مع أن قرار وقف إطلاق النار كان ساريا، إلا أن القتال لم يكن قد توقف بحلول عودتي. وكان لا يزال بوسعنا سماع دوي القصف والمعارك.  بعد أسبوعين على عودتي، وجدتني أجلس وحيدة في غرفة الانتظار في مختبر طبي، بانتظار نتائج فحوصي الطبية. وكنت قلقة جدا. تساءلت عما سيحدث إن كانت النتيجة إيجابية، وكنت خائفة لأنني لم أعرف كيف ستكون ردة فعلي. عندما استدعتني موظفة الاستقبال، سحبت ورقة النتائج من يديها وتجنبت النظر فيها. لقد أردت مكانا هادئا لكي أستجمع قوتي وأستعد للأسوأ. سرعان ما وقع انفجار وكان مدويا لدرجة أنه قطع أنفاسي لوهلة، وقلت لنفسي: لا مزيد من الأطفال الضحايا.  لكنّ موظفة الاستقبال قضت على شكوكي بابتسامة، وقالت لي: "أنت حامل".

  

هربت إلى سيارتي، وقدتها بيد واحدة، إذ كانت يدي الأخرى على رحمي كما لو أنني أريد حماية طفلي الذي لم يولد بعد من براثن حرب بلا نهاية. لم أخبر أحدًا. وأخفيت نتائج الفحوص الطبية ليومين، حتى أستوعب الصدمة بمفردي. حتى اللحظة، لا زلت أشعر بالتعاسة والخزي لأنني مسؤولة عن إنجاب طفل يحتمل أن يكون ضحية حرب. آمل أن أغفر لنفسي وأجد طريق الخلاص، وآمل ذلك حقا لأنني أعرف أن هذه الحرب لن تنتهي قريبًا. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.