شعار قسم مدونات

كانت دليلا على قوته واليوم تعزز ضعفه.. قصة الإنسان والآلة

blogs تروس الالات

ليست التقنية كما هو سائد، عبارة عن مجموعة من الآلات والأدوات التي يستخدمها الإنسان لتسهيل حياته وتحسين عيشه، بل هي أكثر من ذلك بكثير، فهذا التعريف السائد راجع إلى توهم الإنسان بأن التقنية وليدة العصر الحديث، الذي شهد تطورات علمية جبارة في الرياضيات وعلوم الطبيعة بشكل عام. لكن الحق هو أن التقنية قديمة قدم الإنسان، إنها الدليل الوحيد على قوة تمكنه من الطبيعة ومحاربة غضبها. فالتقنية؛ هي استراتيجية للبقاء وطريقة للتعامل مع وضعيات الحياة بشكل عملي. وهي ليست موجودة فقط لدى الإنسان، بل كذلك لدى الحيوان، إلا أن الفرق قائم، في أن الحيوان له تقنيات حيوية مصخرة له بالفطرة والجبلة. أما الإنسان فله من الفطرة؛ لكنه كائن يمتاز بالتأقلم الحاد أو الذكاء، وهذا ما يطور فيه ملكة التقنية بشكل بعدي، بحيث يصبح قادرا على الإستباق من خلال جمعه بين النظر والعمل لمواجهة الواقع.

لكن ما يجعلنا نعتقد أن التقنية، هي؛ مجموع الآلات التي نستخدمها….إلخ، هو هذا الإنكشاف الذي عاشه العالم الإنساني، منذ الثورة الكوبرنيكية إلى الآن، انكشاف كما يقول الفيلسوف الألماني "هيدغر"، يعبر عن درجة عميقة من الحدوث العلمي الذي كان هدفه السيطرة على الطبيعة بشكل كلي وتسخيرها للإنسان. إلا أن هذا الحدوث حمل في جوهره أسسا لتحول الإنسان على مستوى الماهية. بحيث أصبح الإنسان بعيدا كل البعد عن الإنسان، لقد تم استلابه بالكامل من إنسانيته وبراءته.

إن العصر الحديث بما حمله من تطور على مستوى الذهنية التقنية؛ أدى إلى تحويل التقنية من استراتيجية للمواجهة والحفاظ على البقاء، إلى آلية للسيطرة والسطوة، والتمرد على الدين والفطرة. ولقد توهم الإنسان أنه بهذه الطريقة سيكتشف الأسرار ويحقق الخلود، وينزع الطابع الغرائبي عن العالم، ويفتح فتوحات لا نهاية لها، إلا أنه وقع في المحضور؛ حيث أصبحت التقنية بمفهومها الحديث، من أسس التعاسة. لقد غدى الإنسان أكثر حيوانية، يفكر في الحرب أكثر من تفكيره في السلم، يفكر في كل ما يحرر نزواته وغرائزه؛ بل أكثر من ذلك يطورها نحو الأسوأ.

  

تسديد العقل الإنساني بالنزعة العاملية، انعكس على الإنسان ذاته فأصبح مجرد آلة. ولعل ما يدل على هذا هو الثورة الصناعية ذاتها، والتي بنيت على نظرية الإيقاع الجهنمي للآلة

بهذا المعنى، لم يبقى الإنسان هو الكائن العاقل أو الناطق، أو الراغب، أو الاجتماعي…، بالمعنى الإنساني الحضاري، بل أصبح الكائن التقني الخاضع لنمط الوجود التكنولوجي، لقد أصبح آلة أكثر من الآلات التي صنعها وسارت تتحكم فيه. لنتعمق في الموضوع أكثر ونخرج من إطار تحديد الإنسان على غرار التقنية بمعناها الحديث، إلى مجال أكثر خطورة ألا، وهو المتعلق، بتحالف العلم والتقنية لصالح السياسات الاقتصادية الكبرى؛ هذه الأخيرة التي عملت على تذويب العالم بأسره في مستنقع واحد؛ ألا وهو العولمة.

أولا وقبل كل شيء ليس هناك شك، في أن التقنية سابقة على العلم؛ ولقد أتبثنا هذا في التعريف الذي حددناه سابقا. لكنه في العصر الحديث الذي أدى إلى بزوغ فهم جديد للعلم، تحالف كل من العلم والتقنية، فأدى هذا التحالف الجدلي إلى تحول كليهما (أي العلم والتقنية)؛ فأصبح العلم تجريبيا محضا لا يستوي إلا بوجود الآلة التي يبني عليها ملاحظاته وفروضه ونتائجه، وسارت التقنية تكنولوجيا؛ أي مجموعة من الوسائل والآلات. ولقد انعكس هذا الأمر سلبا على العقل البشري بحيث أخرجه من إطار المقاصد والتي كانت تحدد أخلاقيا، إلى إطار الأداتية؛ الذي يعمل على إفراغ العقل من الطبائع الأخلاقية وتسديده بما هو ذرائعي محض.

إن تسديد العقل الإنساني بالنزعة العاملية، انعكس على الإنسان ذاته فأصبح مجرد آلة. ولعل ما يدل على هذا هو الثورة الصناعية ذاتها، والتي بنيت على نظرية الإيقاع الجهنمي للآلة. هذا الإيقاع الذي صاغ ثنائية الإنتاج والاستهلاك، التي شكلت العالم الحديث المعولم.

ولقد استفاد دعاة العولمة-أمريكا وبريطانيا خصوصا- من هذا الوضع فعملوا إبان القرن الماضي، حتى الآن على إعادة توطينه في كل رقعة جغرافية مبررين ذلك بخدمة الإنسانية جمعاء والعمل على تحضيرها. لكن الحق، هو أن الغرب استعمل تحالف العلم والتقنية لإخضاع كل شعوب العالم، وإرغام البشر على التخلي عن إنسانيتهم لصالح ثقافة الاستهلاك، من خلال خلق نمط عيش مشترك يجعل العالم مجرد قرية صغيرة، متحكم فيها.

  

أصبحت الحروب تخلق من العدم وتم قتل الضمير الإنساني، والبشر يباع ويشترى على مرآى الجميع، وشعوب تهجر من جغرافيتها قاصدة الخلاء والخواء، فقط لأجل أن نبيع الأسلحة
أصبحت الحروب تخلق من العدم وتم قتل الضمير الإنساني، والبشر يباع ويشترى على مرآى الجميع، وشعوب تهجر من جغرافيتها قاصدة الخلاء والخواء، فقط لأجل أن نبيع الأسلحة
   

لقد أصبحنا نسمع الآن بأمركة العالم، فالكل أصبح مغرما بهذا النموذج الجديد، وقامت تيارات فكرية قوية في كل بقاع العالم تدافع عن هذا النموذج، ومن عارضها أو قاومها يوصف بالتخلف والإرهاب والانغلاق، بل وأكثر من ذلك لقد سمعنا مؤخرا بأن بعض العرب-إذ لم يكونوا كلهم- باعوا فلسطين من أجل التودد لأصحاب التقنيات المتطورة في السلاح. بحيث تدفع لأمريكا مليارات الدولارات من أجل الاستفادة من تحالف العلم والتقنية الذي سوغوه تسليحا، والذي لن نستعمله ضد أحد سوى ضد الشعب اليمني الأعزل.

  
وما يخيف أكثر هو أن الغرب أصبح يستعمل تحالف العلم والتقنية، للتحكم في السياسات الداخلية للدول، وذلك عن طريق شبكة الأنترنت والأقمار الاصطناعية، وآلات تقنية النانو المتطورة جدا. ما يتيح لدولة مثل أمريكا، التحكم في الدول والشعوب عن بعد، دون أن يحرك أحد ساكنا خوفا عن مصالحه أو كرسيه السياسي. وحتى إذا أراد أحد ما المقاومة حاصروه حتى الموت، ففي عالم يحكم فيه التقنية والعلم والاقتصاد، إما أن تكون معنا أو أن تموت معزولا.

لقد أصبحت الحروب تخلق من العدم وتم قتل الضمير الإنساني، والبشر يباع ويشترى على مرآى الجميع، وشعوب تهجر من جغرافيتها قاصدة الخلاء والخواء، فقط لأجل أن نبيع الأسلحة التي جاد بها العقل التقني على الغرب. ومن أراد فتح فمه، تدمر مصالحه أو يطير كرسيه من تحته لأن أمريكا تمتلك آليات التحكم عن بعد. هكذا إذن يؤدي تحالف العلم والتقنية إلى تدمير الإنسان وجعله أكثر حيوانية، يغيب الأخلاق لأجل المصالح الاقتصادية، يتحكم في حياة الناس ليقتل ثقافاتهم وهوياتهم، يفسد في البر والبحر، يقتل الطبيعة لأجل التطورات الكيميائية، لكن أكان للإنسان أن يصل إلى هذا الحد لو فقط بقي على براءته وجماله؟ أكان ليصل الإنسان لهذا الحد لو عرف كيف يتحكم في تحكمه؟ أكان ليصل الإنسان لهذا الحد لو غلب الحكمة على الجشع؟ على الأقل لنحمي أنفسنا من هذا الخطر، لنكن أناسا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.