شعار قسم مدونات

بعد سياسات ترمب.. هكذا تتحول موازين القوى في العالم!

blogs تحولات توازن القوى الدولي في عالم مضطرب

شهد العقد الأخير تحولات إقليمية كبرى في العديد من مناطق العالم. وقد ساهمت القوى العظمى في صياغة مشهد التحولات في العديد من هذه المناطق. ولم يعد من الممكن قراءة تطورات المشهد السياسي في أي منطقة -أو دولة- دون البحث في مواقف القوى الإقليمية والدولية الفاعلة هناك.

  

تحولات ميزان القوى الدولي

تعرض توازن القوى الدولي لخلل فادح منذ نهاية الحرب الباردة، حيث فتح انهيار الاتحاد السوفييتي الباب واسعا للولايات المتحدة لبسط هيمنتها على النظام الدولي دون منازع. ومثل العدوان الأمريكي -المدعم بتحالف دولي واسع- على العراق مطلع التسعينيات ذورة النفوذ الأمريكي. ثم جاءت هجمات الحادي عشر من سبتمبر لتوفر فرصة جديدة للولايات المتحدة لفرض نفوذها عبر العالم، فاحتلت افغانستان والعراق ودفعت باتجاه تغيير انظمة الحكم في كثير من دول العالم الثالث عبر مشروع نشر الديمقراطية، مما أحدث اختلالات سياسية واجتماعية في العديد من الدول لا تزال اثارها شاخصة للمتابعين.

 
وعلى الرغم من استمرار الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي إلا أن العقد الأول من الألفية الثالثة شهد بداية تحولات مهمة في ميزان القوى الدولي. فالصعود الاقتصادي السريع للصين -والذي بدأ في سبعينيات القرن الماضي- تعاظم في التسعينيات حتى باتت الصين مع نهاية العقد الماضي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، متفوقة على العملاق الاسيوي الآخر؛ اليابان. وشهد العقدان الماضيان عودة سريعة لروسيا -وريثة الاتحاد السوفيتي- إلى المشهد الدولي بقيادة رئيسها الطموح -فلاديمير بوتين- الذي أحسن استثمار ثروات البلاد النفطية لبناء اقتصاد أكبر وإعادة تطوير ترسانة الاسلحة التي تمتلكها البلاد.
    

بدأ النفوذ الصيني يصبح أكثر وضوحا في القارتين الاسيوية والأفريقية عبر إطلاق الشركات الصينية -الحكومية عادة- لعشرات المشاريع الاقتصادية العملاقة وإنشائها للعديد من نقاط الارتكاز الاستراتيجية

وساهم الانشغال الأمريكي في ملفات أقل أهمية في الميزان الاستراتيجي -مثل السيطرة على أفغانستان والعراق ومحاربة تنظيم القاعدة- في إتاحة فرصة ذهبية للصين للتمدد في منطقة أسيا-باسيفك ولروسيا لإعادة بناء قدراتها وتأكيد حضورها في منطقة أوروبا الشرقية. ولعل السياسة الخارجية الامريكية العدوانية في عهد الرئيس بوش الابن قد ساهمت في تسريع تقارب الجارين العملاقين -روسيا والصين- في فترة حساسة تزامنت مع صعودهما الاقتصادي، فتشكلت تحالفات دولية جديدة أبرزها كتلة البريكس التي ضمت روسيا والصين بالإضافة للبرازيل والهند وجنوب افريقيا.
 
في خضم هذا المشهد الدولي المعقد دخلت دول العالم العقد الثاني من الألفية الثالثة على وقع تحولات كبرى في موازين القوى الدولية. وأصبحت آثار هذه التحولات أكثر وضوحا إثر اندلاع ثورات الربيع العربي واشتعال أزمات سياسية وعسكرية عديدة في شرق أوروبا وآسيا الوسطى وأفريقيا والشرق الأوسط. هذه الأزمات أظهرت أن الساحة الدولية لم تعد ترزح تحت الهيمنة الأمريكية المطلقة، بل أصبح لفاعلين دوليين آخرين -مثل روسيا والصين- بالغ الأثر في رسم مشهد التحولات في هذه القضايا المختلفة.
 

صعود الصين

مثل إطلاق الرئيس الصيني سي جين بينغ لمشروع "حزام واحد، طريق واحد" في عام 2013م بداية عهد جديد للنفوذ الصيني حول العالم، حيث بدأت مرحلة استثمار الصعود الاقتصادي في مشروع سياسي استراتيجي. وبدأ النفوذ الصيني يصبح أكثر وضوحا في القارتين الاسيوية والافريقية عبر إطلاق الشركات الصينية -الحكومية عادة- لعشرات المشاريع الاقتصادية العملاقة وإنشائها للعديد من نقاط الارتكاز الاستراتيجية. ورغم أن المشاريع الإنشائية الصينية الكبرى خارج الصين قد تصاعدت منذ مطلع الألفية الثالثة إلا أنها أصبحت سياسة رسمية للدولة في عهد الرئيس سي جين بينغ، الذي نجح في تضمينها في ميثاق الحزب الشيوعي الحاكم في مؤتمر الحزب التاسع عشر المنعقد في أكتوبر 2017م.
   undefined

 

ونجحت الصين خلال العقد الفائت في الانتشار عبر العالم عبر "حزام" من المشاريع الإنشائية ومشاريع البنية التحتية يمر برا في العديد من الدول الاسيوية، كما عززت من انتشارها في دول أخرى عبر "طريق" بحري يضم العديد من الموانئ والقواعد العسكرية وشبه العسكرية. ففي المحيط الهندي وحده أنشأت الصين -وأعادت تأهيل- عدة موانئ وقواعد في دول مينمار وبنغلاديش وباكستان وسريلانكا وجيبوتي، ولا تزال تحاول في المالديف.

 
ولا يزال "عقد اللؤلؤ" الصيني -كما تسميه جهات الأمريكية غير مرحبة به- في توسع. وليست القاعدة العسكرية الصينية في جيبوتي -وهي الأولى للصين في الشرق الاوسط والعالم- والسعي لإنشاء ميناء بحري عملاق شمال المالديف، ليسا سوى إضافات جديدة على حبات عقد اللؤلؤ.

عودة روسيا

تزامن الصعود الصيني المتسارع مع إعادة ترتيب روسيا لأوضاعها الدولية حيث عززت خلال الأعوام القليلة الماضية من قدراتها الاقتصادية والعسكرية وفعلت حضورها الدولي. فبعد الانتصار الساحق في جورجيا عام 2008م، والحضور القوي في سوريا وأوكرانيا خلال العقد الفائت، شرعت روسيا في إعادة بناء برنامج قومي للتسلح لتعيد تأكيد حضورها على الصعيد الدولي كقوة عسكرية عظمى توازن طموحات الهيمنة الأمريكية. وكان إعلان الرئيس بوتين مطلع مارس 2018م عن امتلاك روسيا لقدرات عسكرية خارقة تشمل قدرات نووية وصاروخية جديدة ايذانا ببدء مرحلة جديدة لعودة النفوذ الروسي إلى الساحة الدولية. 

  undefined

  

الولايات المتحدة وتصاعد التحديات

هذه التطورات الدولية فرضت على الولايات المتحدة تحديات كبيرة، فبدأ الرئيس السابق باراك أوباما بتدارك المشهد عبر انتهاج إدارته لسياسة "الارتكاز" في منطقة اسيا-باسيفك عام 2010م، لمواجهة الصعود الصيني وتعزيز النفوذ الأمريكي في آسيا. ثم قامت إدارته بإنشاء وقيادة تحالف دولي ضد داعش للمحافظة على النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط ومواجهة النفوذ الروسي والايراني في سوريا والعراق، كما سعت -دون جدوى- للحد من تصاعد النفوذ الايراني في الشرق الأوسط عبر الاتفاق النووي الموقع في يوليو 2015م.
 
لكن عدم رغبة أوباما بالخوض في الصراعات العسكرية الخارجية بعمق -بعد تجربتين فاشلتين لسلفه بوش في أفغانستان والعراق وله في ليبيا- دفع به للحذر والتأني، مما أفسح الفرصة لقوى أخرى لمنازعة الولايات المتحدة على قيادة المنظومة الدولية.

وجاء الرئيس دونالد ترمب بطرح قومي صارخ يسعى للنهوض بالاقتصاد الأمريكي على حساب أي اعتبارات سياسية او استراتيجية، فدفعت طريقته في إدارة العلاقات الخارجية نحو إشعال الكثير من الأزمات مع الأصدقاء والخصوم على حد سواء. فمع الحلفاء زادت مطالباته المتكررة لحلفاء الولايات المتحدة بأن يدفعوا مقابل حمايتهم من منسوب عدم الثقة بالحليف الأمريكي، مما دفع كوريا الجنوبية لمحاولة حل مشكلتها مع كوريا الشمالية بطرق دبلوماسية جديدة، ودفع اليابان والسعودية لبحث إمكانية تعزيز قدراتهما العسكرية عبر مصادر وطرق أخرى، مما يهدد بإطلاق سباقات تسلح دولية جديدة.
  

على الرغم من صعوبة الحكم على آثار سياسات ترمب الحالية على الحضور الأمريكي المستقبلي في الساحة الدولية، إلا أن شواهد عديدة توحي بأن تلك السياسات ستعجل من تراجع النفوذ الأمريكي
على الرغم من صعوبة الحكم على آثار سياسات ترمب الحالية على الحضور الأمريكي المستقبلي في الساحة الدولية، إلا أن شواهد عديدة توحي بأن تلك السياسات ستعجل من تراجع النفوذ الأمريكي

 
وفتحت رغبة ترمب في عدم الانخراط كثيرا في أزمات الشرق الأوسط الباب على مصراعيه لتصفية الأطراف المختلفة حساباتها مع بعضها البعض في ظل تراجع الهيمنة الأمريكية، فاندلعت أزمة الخليج، وتغيرت المعادلات في الأزمتين السورية واليمنية وتصاعد الاستقطاب الاقليمي من جديد.
 
وعلى الرغم من صعوبة الحكم على آثار سياسات ترمب الحالية على الحضور الأمريكي المستقبلي في الساحة الدولية، إلا أن شواهد عديدة توحي بأن تلك السياسات ستعجل من تراجع النفوذ الأمريكي حول العالم. فعلى سبيل المثال، من الواضح أن إلغاء إدارة ترمب لاتفاقية الشراكة العابرة للهادئ TPP -التي كافحت إدارة أوباما سنوات عدة لإنشائها- قد أفسح فرصة تاريخية للصين لتتمدد في منطقة اسيا-باسيف وتصبح الشريك الاقتصادي الأكثر موثوقية لدى كثير من دول المنطقة.
 
وختاما، توحي تطورات المشهد الدولي خلال السنوات القليلة الماضية بأن تحولا كبيرا يجري الآن في ميزان القوى الدولي سيفرز نظاما دوليا متعدد القطبية تمثل الولايات المتحدة والصين وروسيا أبرز أقطابه. هذا التحول يعني تفاقم الصراعات الدولية الجارية واندلاع صراعات جديدة قادمة تزيد من تعقيدات هذا العالم المضطرب أصلا بما فيه الكفاية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.