شعار قسم مدونات

الدين وسحق المجتمع.. كيف رسخت الهندوسية للعنصرية بين الطبقات؟ (2)

blogs بوذا

تأكيدًا لما تم ذكره في المقال السابق من أن الدين في الهند قد لعب دورًا مهمًّا في صناعة الفوارق الاجتماعية تقول لنا موسوعة تاريخ الأديان: فعندما تم ربط نظام الطبقات بقانون كارما، أصبح تفسير اللامساواة في الحياة أمرًا بسيطًا وشاملًا في آنٍ، وسرعان ما اكتسب وجود الطبقات في بنية المجتمع نوعًا من التبرير الأخلاقى. فإذا ما وُلِد شخص في طبقة العبيد كان السبب في ذلك ذنبًا اقترفه في وجوده السابق ولا يستحق أيّ نصيب أفضل. أما البرهمي فيستحق بكل جدارة أن يمجد صلاحياته ووجوده.

لكن الصراع الأهم والأكثر حدة قد نشب بين الطبقتين الأولى والثانية، وهما طبقة النبلاء وطبقة البراهمة، وهو أمر طبيعي جدًّا في هذه البيئة، فالنبلاء يرون في أنفسهم جنسًا آريًّا له حق السيادة المطلقة، وأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتساوى مع بقية الأجناس الأخرى الموجودة في بيئته وتحيا معه، والبراهمة يرون أنفسهم أنهم بامتلاكهم شروح الفيدا وتأويل النصوص الدينية قد تميزوا عن المجتمع دينيًّا وثقافيًّا.

لقد حاول بعض المؤرخين أن يميلوا إلى أن مصدر هذا التفاوت بين الطبقات كان مصدره اختيار المهن، وقدرة الشخص على التفوق في مهنة دون أخرى، ومال مؤرخون آخرون إلى أن هذا التفاوت كان مصدره مقتضيات الطبيعة في الهند. على أن قوانين (منو) قد أكدت على أن هذا التفاوت كان مصدره نصوصًا دينية مقدسة فتحكي وهي تعدد كيف خلق برهما الكائنات: ثم خلق البرهمي من فمه، والكاشتريا من ذراعه، والويشا من فخذه، والعبيد من رجله، فكان لكل من هذه الطبقات منزلته على هذا النحو.

  

دعا بوذا للمساواة داخل بنية النظام الاجتماعي فيمن يدخل دعوته فقط وليست دعوة للمساواة بين الناس أجمعين، ومن ثَمَّ لم تفلح البوذية في إلغاء التفاوت بين الطبقات
دعا بوذا للمساواة داخل بنية النظام الاجتماعي فيمن يدخل دعوته فقط وليست دعوة للمساواة بين الناس أجمعين، ومن ثَمَّ لم تفلح البوذية في إلغاء التفاوت بين الطبقات
   

يعلق الدكتور أحمد شلبي على نظرية اختيار المهن فيقول: هل لو مال أحد الشوادر للعلم وعشقه كان يباح له أن يصبح برهميًّا؟ وألا يوجد في طبقة الكاشتريا خامل أو بليد؟ وإذا وُجِد بها خامل أو بليد هل يمكن أن ننحدر به إلى طبقة الشوادر؟ الإجابة دائمًا بالنفي، فالطبقة مصدرها العرق وسيادة الجنس أكثر من أيّ شيء آخر. من أجل هذا التفاوت بين الطبقات في الهند قامت الثورات الدينية محاولة أن تهدم بنية هذا النظام الاجتماعي، وإن حملت هذه الثورات ما حملت من عقائد وفلسفات؛ لكن جُل ما حملته كان تحطيم هذه الفوارق والسعي إلى المساواة بين الناس.

فالجينية التي أسسها الزعيم الهندي مهافيرا كانت تقصد أول ما تقصد هدم هذه الفوارق الاجتماعية، ولقد كان مهافيرا رجلًا من طبقة النبلاء ترعرع وعاش في بلاطات الحكم الهندي مستمتعًا باللذات غارقًا في متع الحياة، لكنه وفجأة ألمه وجود هذا التفاوت، فحاول جاهدًا أن يحاربه لكنه لم يستطع إلى ذلك سبيلًا، فذابت ديانته في أوساط الديانة الهندوسية، وأقر في نهاية الأمر بأن البرهمي مخلوق يرتفع عن بقية الخلائق.

ثم جاء غوتاما بوذا ولقد كان أبوه من طبقة الكاشتريا ويقطن قبيلة (ساكيا) وله فيها أراضٍ وقصور ومال عريض ومتزوجًا من سيدة نبيلة. كان من الممكن أن يعيش بوذا في هذا النعيم ما شاء له العمر، وألا يدع هذه الثروة وهذا الجاه مهما كان مصيره ومصير الفقراء والبائسين من حوله، لكنه ترك هذا وفكَّر فيما فكر عن هذا التفاوت الرهيب بين الناس؛ فنادى أول ما نادى قائلًا: اعلموا أنه كما تفقد الأنهار الكبيرة أسماءها عندما تصب في البحر، كذلك تبطل الطبقات الأربع عندما يدخل الشخص في النظام ويقبل الشريعة. إن هذه الكلمات من بوذا قد قيلت في المراحل المبكرة من دعوته، وهي تدعو للمساواة داخل بنية النظام الاجتماعي فيمن يدخل دعوته فقط وليست دعوة للمساواة بين الناس أجمعين، ومن ثَمَّ لم تفلح البوذية في إلغاء التفاوت بين الطبقات.

لقد كتب الدكتور محمد غلاب وكتب آخرون عن الفلسفات الشرقية القديمة، واهتموا بالبحث عن مسائل العقيدة وتعدد الآلهة، وكل هذه الأبحاث كانت قاتمة في مضمونها وغاياتها، لأنهم في خِضَمّ هذا التوغل في البحث عن الغيبيات وانعكاساتها على المجتمع؛ نسوا الحديث عن بنية النظم الاجتماعية القائمة وعن مدى ما أوصلت العقائد والفلسفات وتحديدًا في الهند إلى هذا السخف في حقوق الإنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.