شعار قسم مدونات

هل الدين ضروري حقا للإنسان؟

blogs صلاة

منذ نهايات القرن الثامن عشر لم تعد دراسات الأديان حكراً على قسم اللاهوت الذي درسها من منطلق الإجابة على الأسئلة المطلقة والحقائق معتمداً على طبيعة الدين كما هي متواجدة من العقيدة، فقد أقحم علم الاجتماع نفسه بدراسته الأديان باستخدام المنهج الوضعي (المسح الاجتماعي، الإحصائي، المنهج التجريبي، التاريخي، المقارنة الثقافية) على اعتبار الدين ظاهرة اجتماعية.

 

ونتيجة لاستخدام المنهج الفينومينولوجي أصبح كل دين يؤلف هيكلاً قائماً بذاته، مما يعني أن كل دين مرجعاً لنفسه؛ وهذا يوصلنا إلى حالة نسبية مطلقة في دراسة الأديان، ويجعل مقارنتها أو بيان أحقية أحدها شبه مستحيلة، لذلك فلا يمكن الاعتماد على هذه المناهج في الدراسات اللاهوتية.

 

لا يخفى أن استخدام هذه المناهج لا يساند في فهم المفارقات بين الأديان ولا في الحكم عليها بالأحقية، إلا أنه يتسنى من خلالها استعراض تاريخ محاولات الإنسان للاتصال بقوة عظمى يفتقر إليها، وأنه لم يستغن يومًا عن الدين، كما وأنها تُظهر الوجه الجامع لغايات البشر من الأديان بعمومها. وهذا بشأنه أن يُدَعّم النظر إلى الدين على أنه حاجة للفرد، وأما النزوع إلى اللادينية أو الإلحاد فهو فكرة شاذة دخيلة على الحضارات والمجتمعات وإن وجدت بوادرها منذ القدم.

 

تعتبر العقيدة والأسطورة والطقس من الأركان الأساسية التي يقوم عليها الدين فالمعتقد الديني أساس للأسطورة التي تكون امتداداً له
تعريف الدين

بناء على ما سبق فقد اختلف تعريف الدين عند المسلمين – الذين عرفوه بأنه "ما شرعه الله من الأحكام على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم " – عنه عند الغربيين الاجتماعيين، الذين اختلفت تعريفاتهم في محاولة لوضع تعريف يشمل الأديان كافة من أكثرها بدائية إلى أعظمها تعقيداً.

 

ومن أهم هذه التعريفات للدين تعريف وليم جيمس بأنه: (مجموعة الأحاسيس والخبرات القائمة بين الفرد وبين ما يعتبره إلها، والتي تعرض للأفراد في عزلتهم وما تقود إليه من تصرفات)، الغريب اعتبار جيمس للأحاسيس والخبرات أنها تعرض الأفراد في عزلتهم، وكأنه ينفي أي فاعلية للدين في حياة الفرد أو للفرد المتدين في الحياة، ويعرفه سبنسر بأنه: (الحضور الفائق لشيء غامض وعصي على الفهم)، ولا يخفى على القارئ الحصيف ما في تعريف سبنسر من تمرير لفكرة لا معقولية الدين، مع أن هناك بعض الأديان لم تختلف مع قوانين العقل بل ودعمت الأخيرة من مصداقيتها كما في الدين الإسلامي.

 

أما دوركايم فيعرفه بـ (المنظومة من المعتقدات والممارسات التي تدور حول موضوعات مقدسة يجري عزلها عن الوسط الدنيوي) جليلة هي التفاتت دوركايم إلى عناصر الدين النظرية والعملية في قوله المعتقدات والممارسات، إلا أن الانعزالية المنصوصة بالتعريف والمتفقة مع انعزالية جيمس، بناء عليها لا يمكن اعتبار تعريف دوركايم شاملاً لجميع الديانات التاريخية وبخاصة الديانات التي كان يعتبر الحاكم فيها إلهاً أو امتدادا للإله على الأرض.

  

مكونات الدين

تعتبر العقيدة والأسطورة والطقس من الأركان الأساسية التي يقوم عليها الدين فالمعتقد الديني أساس للأسطورة التي تكون امتداداً له، والتي يعمل الطقس على إرساء دعاماتها. أما الأركان الثانوية للدين فهي الأخلاق والتشريعات وقد عدت ثانوية؛ كونها اتسقت بالدين في سياقه التاريخي دون أن تكون من صلبه.

 

ظاهرة الدين في الحضارات القديمة: منذ أزمنة سحيقة ضاربة في القدم عرف الإنسان الدين من خلال تأمله بنفسه وروحه أو الأرواح المحيطة به، أومن خلال عاطفة كالخوف دفعته للبحث عن الأمان الدنيوي أو الأخروي أوكلاهما من خلال الطقوس الدينية التي مارسها، فلا تكاد تجد حضارة تخلو من معابد تمثل الحضور الفاعل للدين فيها.

 

فحضارة بلاد الرافدين التي ضمت الشعوب السومرية والآكدية والأشورية والبابلية في الألفية الرابعة قبل الميلاد عرفت الآلهة المتعددة كثيرة العدد التي تتصف بالصفات البشرية بما فيها من ميزات وعيوب حتى أنها يعتريها الموت كما يعتري البشر وكان لكل آلهة وظيفتها الخاصة، واستمرت تعددية الآلهة إلى أن قُضي على الدولة السومرية واندمج السومريون مع الاكديون فظهرت فكرة الإله القوي المسيطر الذي قضى على الآلهة التقليدية وظهر جيل جديد من الآلهة. وهذه الفكرة تعد ممهدة لعقيدة الإله الواحد.

 

ولو عرجنا للشرق قليلاً فحضارة الفرس عرفت ديانات كثيرة أولها المجوسية والتي يطلق عليها المزدية أو الثنوية؛ كونها تؤمن بإلهين إله الخير وإله الشر، ثم ظهرت الزرادشتية بظهور زرادشت على أنه نبياً فارسياً وتحمل الزرادشتية العقيدة المزدية، وتضيف عليها نظرية سياسية مفادها طاعة الملك وخدمة العائلة المالكة، ثم ظهرت المانوية كديانة توفيقية بين الثنوية المزدية وتناسخ البوذية وتثليث المسيحية، ثم ظهرت المزدكية والخرمية وزادت عما قبلها بإباحة وشيوعية الأموال والنساء.

 

انسياق الفرد في الحياة الحديثة بما تحمله من عبء المادية والشراسة التنافسية تستدعي وبإلحاح عودة الدين بتعاليمه ومحاكاته للروح الانسانية ليحقق التوازن في حياة الفرد

أما الفينيقيون في شمال غرب الجزيرة العربية فقد انبثقت ديانتهم عن حياتهم الزراعية وأخذت الطبيعة الإحيائية بإضفاء الحياة والإنسية على المظاهر الطبيعية من حولهم، وأخذت آلهتهم تمر في التحولات ذاتها التي تمر فيها الطبيعة، فمقتل الإله موت على يد الربة أنات كان يعني الاحتفال بانتهاء الحصاد، واحتفالات أدونيس كانت تحدث أيضًا في نهايته، بين حزيران وتموز، وعند انتهاء هذا الموسم الزراعي في الخريف كانت تقام احتفالات استجلاب المطر.

 

أما الرومان فعبدوا الآلهة الكثيرة وتأثروا باليونانيين وتبنوا أساطيرهم، وإبان حكم أغسطس انتشرت فكرة عبادة الإمبراطور على نطاق واسع وتبجيل الموتى من الأسلاف وتوقير جينوس والإله الحارس لكل فرد، وكان أي رفض للدين الرسمي بمثابة الخيانة، فدخل الرومان في صراع مع المسيحية التي اعتبرت إلحاداً إلى أن اعتنقها قسطنطين الأول كأول إمبراطور يعتنق الديانة المسيحية وبإثرها أصبحت النصرانية الديانة الرسمية في روما إبان حكم ثيودوسيوس الأول عام 391 .

 

حاول الإنسان كما يبدو مما مر ذكره التعرف على الإله حتى في الأزمان التي غاب فيها الوحي، وأعمل مخيلته والمظاهر الطبيعية من حوله لتغذية هذا التعرف وكأن حياة الإنسان دون إله أشد عناء من اصطناع الآلهة لأجل عبادتها كما في الديانات البدائية، وهذا من شأنه أن يبين أن الدين من أهم الحلقات التي لا يمكن أن تغفل في المسيرة الحضارية للبشرية، ويقول المفكر مالك بن نبي: (إن الدين من أهم أعمدة التنظير الفكري للنهضة).

 

وإن (أهم قيمة للدين في الاجتماع الإنساني انه يوفر للإنسان القاعدة الفكرية التي تستند الظواهر الكونية والإنسانية فيها للقوة الإلهية الخالقة التي ركزت الوجود في كل تفاصيله على أسس ثابتة في قوانينها متوازنة في حركتها وهذا كفيل بحماية الإنسان من الشعور بالضياع ولا يشعر بالقلق إزاء الكون وحركته لأنه يرتبط به في وحدة النظام العام وينسحب هذا الأثر على المجتمع الإنساني الذي يعيش فيه الأفراد في نطاق الإنسانية التي تلملم اختلافهم وتنوعهم وتجمعهم إنسانيتهم من اجل إنتاج القضايا الكلية في مسار الإنسان).

  

إن انسياق الفرد في الحياة الحديثة بما تحمله من عبء المادية والشراسة التنافسية تستدعي وبإلحاح عودة الدين بتعاليمه ومحاكاته للروح الانسانية ليحقق التوازن في حياة الفرد وإضفاء حالة الاستقرار والهدوء عليها. فالدين بطبيعته المتعلقة بالفرد وبالتجارب الدينية الايجابية التي تخص الفرد نفسه ولا تتعداه وتمتد منه إلى الأسرة والمجتمع، يمثل متطلب محوري للفرد لا يمكن أن يسد شيء مسده.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.