شعار قسم مدونات

حب الأندلس لا يمنعك من حب إسبانيا!

blogs - andalus

لا زال بعض المفكرين العرب يرون في إسبانيا عدوا للعالم العربي باعتبارها ناهبة لحقهم في أرض إسلامية سليبة. يصل الأمر أحيانا إلى توجيه تهديدات للحكومة الإسبانية لاسترداد الأندلس. نذكر من بينها خطابات تنظيم الدولة الإسلامية داعش إثر شن هجومين في برشلونة، مما أسفر عن ما لا يقل عن 13 قتيلا وأكثر من 80 مصابا. غرد أحدهم واسمه أبو ردينة العصامى على موقع تويتر: يوما ما سيرجع الابن الضال إلى حضن أبيه، كما علق آخر باقية وتتمدد، فاتحة الأندلس السليبة قريبا. 

إن تقليص الأندلس في غزو وفتح يضر الثقافة الأندلسية ويناقشها بصورة تكاد أن تكون أحادية سواء سمينا ذلك غزوا للصالح الإسباني أو فتحا للصالح الإسلامي والحقيقة أن أنسب رؤية هي اعتبار الأندلس إرث حضاري وثقافي عام ومشترك بين العرب والإسبان. وطالما لا نشاطر هذا النهج المشترك، فإن وجهات نظرنا لن تكون فقط مختلفة وإنما حتما معادية. لا يمكن المطالبة بالأندلس باعتبارها إرثا، فتحا أو فردوس مفقود إذا أخذنا بعين الاعتبار تلك الفكرة الشائعة التي ترى في الأندلس هزيمة لإسبانيا، الخطاب سيصبح عاطفيا وسيفتقر لكل ما هو علمي. إدراج ما هو عربي إسلامي ضمن ما هو إسباني لا يجب أن يشكل فخرا بالنسبة للبعض وعارا بالنسبة للبعض الآخر.

منذ وصول المسلمين لشبه الجزيرة الايبيرية سنة 711 إلى غاية سقوط مملكة غرناطة سنة 1492 تغيرت مساحة الأندلس الجغرافية على الدوام مع تعاقب الأزمنة وتواتر السلالات الحاكمة. بلغت الأندلس أقصى تَوَسُّع في منتصف القرن الثامن

في الأزمات، يصعُب استيعاب كيف يُصبح كل تقارب فورا عداء وكيف تُلَطَّخُ العلاقات بالخلافات ولعل خير مثال لذلك العلاقات الإسبانية المغربية. على الرغم من مضي سنوات طويلة على نهاية عهد الحماية الإسبانية إلا أن عدوى النزاع الإقليمي لا زالت تنتقل إلى مجمل العلاقات الثنائية. تتخذ العلاقات الإسبانية المغربية طابعا إيجابيا كلما رُفِعَ عَلم الثقافة بين البلدين.

ولعل ذلك ما عبَّرَت عنه الكاتبة الإسبانية يولندا ألدون في حوار لها بالإسبانية مع الكاتب نجمي عبد الحق إثر زيارتها للمغرب سنة 2013 لحضور المؤتمر الدولي المغربي الإسباني صورة المغرب في الصحافة الإسبانية قائلة: تُركِّز إسبانيا باستمرار على الصور العدائية والمُخيِّبٍة عن المغرب وذلك بالتلميح المستمر إلى الصراعات حول الصحراء المغربية، أو مشكلة سبتة ومليلية الإقليمي. ولكن لا تُبرز ما هو إيجابي كالثقافة وبعض العلاقات الطيبة التي تجمع هذين البلدين المجاورين. لذلك فالمغرب، الذي يجد نفسه في موقف المُعتدى عليه، يرد صحفيًا بنفس الأسلوب الحربي.

 

عندما وطأة قدماي للمرة الأولى المملكة العلَوية أحسست بخوف بسبب الصورة المسبقة التي وصلتُ بها. أما الآن فيمكنني أن أقول بكل فخر أن المغرب هو بلدي الثاني. يتم نظم الشعر عن طريق الكلمة ليصبح أداة، أداة رقيقة، واعتمادًا على طريقة عزفها، يمكنها بفعالية مفاجئة تأدية دور قد يضاهي بكثير الدور الذي تلعبه السلطة السياسية نفسها. وبالتالي، يستطيع الشِّعر أن يجلب السلام وكما يُقال نريد سلام يتوق الكل لزرعه بين الشعوب، سلام وإن كان يبدو خيالًا يمكن أن يصبح حقيقة وإن لم يكن. يأتي هذا في إطار السؤال الذي تفضلتم بطرحه مسبقًا. إنه الصراع الهائل بين داوود وجالوت، بين كلمة إسبانية لاتينية وأخرى بالعامية، بين إشارة صليب ونداء مؤذن للصلاة، ذلك النداء الذي يهز أنَاك الشعري وإن كنتَ في الضفة الأخرى من المسجد. إنه الإحساس بالسعادة وفي الوقت ذاته بالاحتضار عندما تسمع على الساعة الرابعة فجرًا عبارة أصبحنا ولله الحمد. وأن تحاول أن تحس بفحوى هذه الجملة التي أعتبِرُها بمثابة شعر حقيقي، ودون أن أعي معنى بعض السلوكيات البشرية غير المقبولة، يمكنني الإقرار بأنها سلوكيات تتناقض مع المعنى الكامل للصلاة، لا أقصد فقط المنظور الديني وإنما أيضًا الدلالي.

إن أندلوسيا ليست هي أندلس. قد يبدو الأمر بديهيا ولكنه في حقيقة الأمر ليس كذلك بالنسبة للكثيرين. كثيرة هي الحالات التي يتم فيها خلط الأندلس بأندلوسيا. هذا الخطأ لا يقع فقط في مجال معين، ولا حتى في منطقة جغرافية معينة ولكنه خطأ واسع الانتشار إلى حد ما. كما لا يمكن تسمية مجلس أندلوسيا الذي يعنى بشؤون إقليم أندلوسيا بحكومة الأندلس. 

منذ وصول المسلمين لشبه الجزيرة الايبيرية سنة 711 إلى غاية سقوط مملكة غرناطة سنة 1492 تغيرت مساحة الأندلس الجغرافية على الدوام مع تعاقب الأزمنة وتواتر السلالات الحاكمة. بلغت الأندلس أقصى تَوَسُّع في منتصف القرن الثامن. شملت شبه الجزيرة الايبيرية بما في ذلك البرتغال والتي يتم إهمالها عند تسمية هذه الفترة بإسبانيا الإسلامية كما لو أن البرتغال لم تكن إسلامية. وهي تسمية خاطئة وغير دقيقة. وإلى جانب شبه الجزيرة الايبيرية ضمت الأندلس جزءا من الأراضي الفرنسية. أعقبت هذه الفترة الذهبية مرحلة ملوك الطوائف حيث انقسمت الأراضي الأندلسية إلى ممالك مستقلة. مع وصول المرابطين والموحدين توحدت الأندلس من جديد على المستوى الإداري ولكن تقلص امتدادها مع الزمن وفي المقابل اتسعت الممالك المسيحية شيئا فشيئا. في منتصف القرن الثالث عشر تقلصت الأندلس في مملكة واحدة وحيدة ألا وهي مملكة غرناطة والتي ضمت ما يعرف حاليا بغرناطة، ألمرية، مالقة، وجزء من قادش، قرطبة وجيان. أخذت بالتقلص إلى أن انتهت سنة 1492. فالأندلس اذن كانت أكثر شساعة من إقليم أندلوسيا اليوم. 

لقد كانت الساكنة الأندلسية عبارة عن فسيفساء من الأعراق والأجناس. ترى الباحثة مريم غراسيا مشبال أن الساكنة الأندلسية لم تكن عربية في غالبيتها. ولكن حظي العرب فيها بامتيازات كبيرة. أما معظم الساكنة فكانت أمازيغية من شمال أفريقيا. كما كان هناك عناصر أفريقية من جنوب الصحراء الكبرى وعدد هام من الصقالبة أو الموالي، وهُم عبيد وأرقاء من سلاف، أصبحوا أحد عناصر المجتمع الأندلسي والمغاربي والصقلي خلال العصور الوسطى. انتهج عبد الرحمن الداخل سياسة الاستكثار من الموالي والاعتماد عليهم كخدم وجنود، للتقليل من سطوة زعماء القبائل العربية الذين كانت لديهم دومًا نزعات للثورة على السلطة المركزية للدولة، في سبيل احتفاظهم بسلطانهم المحلي. كما عملت تلك الشريحة أيضًا في الصنائع اليدوية والتجارة. بلغت ذروة مجدها في المجتمع الأندلسي في عهد عبد الرحمن الناصر لدين الله، حيث وصل الصقالبة إلى مناصب الحجابة والوزارة وقيادة الجيش كبني مغيث وبني أبي عبدة وبني جهور وبني بسيل. تعايشت كل هذه العناصر مع أعراق أخرى كالقوط الغربيون والرومان الهسبان الذين بقوا في شبه الجزيرة الايبيرية تحت الحكم الإسلامي. وكان بين الساكنة يهود ومسيحيون، منهم من احتفظ بديانته ومنهم من اتخذ الإسلام دينا. 

الأندلس ليست هوية أحادية البنية ولا أحادية الأبعاد. الأندلس شكَّلَت محاولة لما نسميه اليوم بالتعددية الثقافية. كانت تعددية ثقافية غير ناضجة، لم تحظ بوقتٍ كافٍ لتتخَثَّر. والعناصر المتواجدة، في هذا السياق، متعددة ومتنوعة. جرِّب أن تنظر للأندلس بعيدا عن متلازمة الشقاء للبعض والمجد للبعض الآخر.

أحب الأندلس جمالا… لم تثرني يوما بطولةً ولا حربا. لطالما أحببتها فنا وشعرا وعمارةً ومزيجا ثقافيا. وقبل هذا وذاك، أحببتها لأول مرة موسيقيا حتى أنني كنت أردد موشحات أندلسية في الطفولة دون إدراك معنى أندلس بالأساس. وكنت أعتقد في تلك السن الصغيرة أنها نوع من الموسيقى فقط! الميل للجمال لا يخرب الأمم. ما أجمل أن تعشق ما يدير الكون ناحية القلب، ما أجمل أن تعشق أسباب التهذيب الثقافي والفكري، أن تعشق الموهبة الإبداعية والنتاج الإنساني الحسي، أن تعشق ما يلون الثقافة الإنسانية، أن تعشق نعيم التنوع. ماذا لو كان ذلك الجانب الجمالي غائبا.. هل كنتُ سأعشقها يوما ما لهذه الدرجة؟ لا أعتقد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.