شعار قسم مدونات

سلطان العاشقين مولانا جلال الدين الرومي

blogs جلال الدين الرومي

إني أتسائل من بين آلاف الأنا، أي واحد منهم أنا. مَنْ لا يركض إلى فتنة العشق يمشي طريقاً لا شيء فيه حي. كل هذه الكلمات الساحرة وأكثر، جميعها خرجت من صاحب مقال اليوم "جلال الدين الرومي " المعروف بـ "مولانا" أو "سيد العاشقين"، دعى في حياته إلى الحب والتسامح الروحاني وحسن الأخلاق وتطهير النفس من كل ما يعلق بها من شوائب الحياة الدنيا حتى انعكس ذلك على أشعاره ليسمعه العالم أجمع.

   

جلال الدين الرومي ليس هذا اسمه الحقيقي، فهو "محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين"، ولد في منطقة "بلخ" في خراسان وهي ما تعرف حالياً بأفغانستان، وذلك في ربيع الأول عام 604 هجرياً، الموافق 30 سبتمبر 1207 ميلادياً، وكانت مدينة بلخ مدينة للعلم والعلماء، وشكلت مركزاً مهماً من مراكز التصوف الإسلامي، وساهمت في ظهوره وبلورته. نشأ في بيئة يسودها العلم والتطلع إلى المعرفة، فوالده محمد بهاء الدين ولد الملقب بسلطان العلماء، وكان والده وشمس التبريزي وبرهان الدين الترمذي أساتذة جلال الدين الرومي، أما مثله الأعلى فقد كان الغزالي.

  

لم يغرق ابن الرومي في التصوف إلا بعد لقاءه بشمس التبريزي، هذا اللقاء الذي أثر فيه وجعله ينغمس في التصوف لينشغل من بعده عن مواصلة مسيرته كفقيه، الأمر الذي أثار حفيظة المقربين منه. تزوج الرومي من جوهر خاتون وله منها: سلطان ولد، وعلاء الدين وكان سلطان ولد هو الابن الأثير لوالده، وقد تبنى خط سير والده بعد وفاته، وأسس الطريقة المولوية، ووضع نظمها وتقاليدها وشعائرها.

   

عند قدوم المغول، هاجرت عائلته هرباً إلى نيسابور، إذ التقى الرومي هناك الشاعر الصوفي فريد الدين العطار، الذي أهداه ديوانه أسرار نامه والذي أثر على الشاب وكان الدافع لغوصه في عالم الشعر والروحانيات والصوفية، ومن نيسابور سافر مع عائلته وهناك لقب بجلال الدين. عام 626 هـ / 1229 م استقرت عائلته في قونية في عهد دولة السلاجقة الأتراك، وبعد عامين توفى والده بهاء الدين، فتولى مكانه في الفقه والإفتاء والتدريس. وبعدها سافر إلى الشام للاستزادة من العلم، فقضى ما يقارب التسع سنوات ما بين حلب ودمشق تحت ظل وإشراف معلمه ومرشده برهان الدين الترمذي، ليعود بعدها إلى قونية عالماً بارزاً في العلوم الإسلامية ولاقى ترحيباً من علماء المدينة وشيوخها، وبدأ بالتدريس والإرشاد الديني بالمدينة.

   

  

ظل الرومي على هذا المنوال حتى اليوم الذي حصل فيه التغيير الجذري في حياته، وذلك بوصول شمس التبريزي إلى المدينة لتبدأ معه رحلة جديدة مختلفة بمضمونها وعوالمها عما اختبره الرومي مع والده ومعلمه.

 

كان شمس يبلغ من العمر ستين عاماً آنذاك حين قابل الرومي، وهو الذي تتلمذ على يد الشيخ أبي بكر السلال التبريزي، سافر شمس من تبريز إلى بغداد ومن ثم إلى دمشق حتى وصل إلى قونية. تعددت الروايات التي تصف الكيفية التي التقى بها شمس بالرومي، لكن مهما كانت الرواية وراء هذا اللقاء نستطيع الجزم أن رحلة شمس عبر البلاد ما كانت إلا بحثاً عن رفيق دربه في عالم التصوف، وفي هذا يقول: "كنت أطلب شخصاً من جنسي، لكي أجعله قبلة وأتوجه إليه، فلقد مللت من نفسي"

  

بعد أن تعرف الرومي على شمس، هجر منصبه كفقيه ومدرس، وتخلى عن كل ما كان يشغله في حياته حتى أنه انزوى عن أهله وأولاده، وانغمس في قضاء وقته مع شمس، الأمر الذي أثار غيرة وحفيظة المقربين إليه. ترك شمس قونية بعد البلبلة التي أحدثها تقربه من الرومي، فقرر الرحيل دون أن يبلغ عن وجهته، هذا الرحيل الذي كشف عن الرومي الشاعر زاد في إصراره على العثور على رفيقه، فأرسل بولده "سلطان ولد" ليبحث عنه. فجلال الدين هو أبرز وأشهر شعراء التصوف على مستوى العالم، وهو الذي لم ينظم الشعر أبداً في حياته، لكن فراق شمس جعله ينظم الشعر دون وعي منه.

  

وبعد بحث مُضن عثر عليه وأعاده إلى رفيقه، لكن القدر شاء أن يحل الفراق الأبدي مرة أخرى ليرحل التبريزي عن هذا العالم للأبد، بعد أن مات مقتولاً بحسب الروايات المختلفة التي أكدت أن حياته انتهت بعد أن قرر أعداؤه الذين كرهوا تقربه وتأثيره الكبير على الرومي أن يسفكوا دمه. هذه الحادثة كانت سبباً في تدفق ملكة الشعر عند الرومي بعد أن ساهم فراقهم الأول في الكشف عنها.

 

ترك الرومي إرثاً من المؤلفات تقسم عادة إلى عدة تصانيف وهي: الرباعيات، ديوان الغزل، مجلدات المثنوي الستة، المجالس السبعة، ورسائل المنبر. أما أعماله الشعرية فهي: " ديوان شمس تبريز "، وهو غزليات صوفية يصل عددها إلى ما يقارب ثلاثة آلاف وخمسمائة غزلية نظمت على أبحر مختلفة وصلت إلى 43 ألف بيت بحسب ما تشير إليه العديد من المراجع، وقد سمي هذا الديوان بهذا الاسم نظراً لأن الرومي كان قد نظمه تعبيراً عن حبه وتوحده مع شمس، أيضاً الرباعيات والتي تضم 1659 رباعية عدد أبياتها.

 

الرومي امتاز بدعوته إلى التسامح وبأفكاره الدينية المرنة، وقد خلف تركة غنية من المؤلفات الصوفية والأشعار والتي كتبها بلغته الأم الفارسية وترجمت لاحقاً إلى لغات عديد

يؤكد الرومي أنه يصل إلى أعلى درجات الروحانية من خلال الموسيقى، وكانت علاقته بالموسيقى موصولة مع الله، ومن هذا المنطلق أسس الرقصة المعروفة باسم "المولوية"، والتي أعلى درجاتها هي حين يبلغ الراقص درجة "ده ده ليك"، وهي أعلى الصفات التي تطلق على الدرويش المنتسب للطريقة المولوية، فالموسيقى الروحية بالنسبة له تساعد المريد على تعرف الله والتعلق به، ومن هذا المنطلق تطورت فكرة الرقص الدائري التي وصلت إلى درجة الطقوس، وقد شجع الرومي على الإصغاء للموسيقى فيما سماه الصوفية السماع، فيما يقوم الشخص بالدوران حول نفسه، فعند المولويين الإنصات للموسيقى هو رحلة روحية تأخذ الإنسان في رحلة تصاعدية من خلال النفس والمحبة للوصول إلى الكمال.

 

وكانت أشعار الرومي من أساسيات هذه الرقصة الروحانية، فلقد أخذ الكثير من أشعار وقصائد كتابه " مثنوي " وديوان الكبير، والتي تقوم على فكرة أن يدور المتصوف حول مركز الدائرة التي يقف فيها بشكل مستمر. وفيها عبر الرمي عن فلسفته الخاصة في العشق الإلهي والتواصل الروحاني مع الله، والرقصة لم تفن بعد وفاته بل انتشرت في جميع أنحاء العالم وتطورت لتتخذ أشكالاً وطرقاً عديدة.

 

عارض وأيد هذه الرقصة الكثير من العلماء وعلماء الدين، فنقرأ قول بن سينا فيها مؤيداً ": لقد هبطت النفس إلى هذا العالم وسكنت الجسد، فلابد أن تحن وتضطرب وتخلع عنها سلطان البدن، وتنسلخ عن الدنيا لتصعد إلى العالم الأعلى وتعرج إلى المحل الأرفع." أما الإمام الصنعاني فعارضها وقال فيها: " وأما الرقص والتصفيق فشأن أهل الفسق والخلاعة لا شأن من يحب الله ويخشاه "، والإمام القرطبي عارضها أيضاً.

 

الرومي امتاز بدعوته إلى التسامح وبأفكاره الدينية المرنة، وقد خلف تركة غنية من المؤلفات الصوفية والأشعار والتي كتبها بلغته الأم الفارسية وترجمت لاحقاً إلى لغات عديدة. فيقول الشاعر الألماني هانز ماينكي: "إن شعر الرومي هو الأمل الوحيد في الأوقات المظلمة التي نعيش فيها"، وقد صنف الرومي بأنه أكثر شعراء العالم شعبية في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك لما لأعماله من أثر واسع عميق.

 

توفي الرومي عام 1273 م، ودفن في مدينة قونية وأصبح مدفنه مزاراً إلى يومنا، وكتبت عنه الكاتبة التركية " إليف شافاق " رواية "قواعد العشق الأربعون" عام 2010، مسلة الضوء على علاقته بشمس التبريزي، وهي الرواية التي لاقت نجاحاً عالمياً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.