شعار قسم مدونات

الرمز في الأدب.. كيف يمرر الكتاب أفكارهم؟

BLOGS كتابة

إن قوة الأدب الحقيقية لا تكمن في قدرة الكاتب على أن يصف الواقع "فقط"، بل في التعبير عن ذلك الواقع وتشخيصه دون الحديث عنه مباشرة. في أن يمر الكتاب الذي يلعن الرقيب تحت يد الرقيب دون أن يدرك معانيه. إنه الشفرة التي يتواصل بها العارفون، إنه الإيماءات الذكية التي لا يفهما إلا من لديهم سر المهنة. إليك بعض هذه الروايات التي حملت من المعاني ما يتجاوز بكثير معانيها الحرفية:

رواية العمى لجوزيه ساراماغو

رواية العمى هي إحدى روائع الأدب العالمي، كتبها ساراماغو في إطار درامي، حيث يعمى بطل الرواية فجأة، ثم ينتشر الوباء حتى يصيب المدينة بالكامل. ولا ينجو منه سوى زوجة البطل، لتبقى مبصرة وحيدة محاطة بالعميان؛ إن ساراماغو لا يقصد هنا البصر بقدر ما يقصد البصيرة، أو الوعي. يقصد المثقفين في أوقات المحنة، حيث يجب أن تتظاهر بالعمى لكي تحافظ على حياتك. "ليس أسوء من العمى سوى أن تكون الوحيد الذي يبصر" على حد تعبيره.

الجنة المفقودة هي في صدر كل مخلوق، لكن الوصول إليها سيحتاج منه الكثير من الصبر، وأن يمن الله عليه بنعمة الاعتدال، إن الشقاء هو أن يتعصب الإنسان لأي شيء مهما كان نبيلا

إن الصراع الآخر الأصعب الذي عاشته البطلة هنا، هي أنها رأت الناس على حقيقتهم دون أن تستطيع أن تحرك أي ساكن، فبعد ما تم عزل العميان في مدرسة مهجورة مراقبة من الحكومة لفترة، انتشر الوباء في كل مكان حتى بين صفوف الحرس لتترك المدرسة دون رقابة، وهنا يستعرض ساراماغو جشع الإنسان عندما تغيب عنه عين الرقيب، كيف يطلق العنان لرغباته ونزواته حين لا يرى قانونا ولا شريعة. فقد سيطر بعض العميان بمسدسات على الملجأ الذي يسكنونه، أخذوا من الضعفاء ما يملكون واغتصبوا ما تبقى من النساء. وكانت ترى ذلك بوضوح لكن العميان كانوا يملكون مسدسات، تماما كما أن الجاهل حين يتملك سلطة لا تجدي معه نصائح العقلاء ولا توسلات المساكين. لقد استطاع ساراماغو أن يلعن الجميع هنا دون أن يحدد أحدا، تحدث عن الجهل، والفساد، والثورة، والنفس البشرية وعن الاغتراب الذي عاناه شخصيا، وعانوا العقلاء على مر العصور.

رواية المجوس لابراهيم الكوني

الرواية هي العمل الملحمي الأبرز للكاتب الليبي الكبير، تدور أحداثها في فضاءات الصحراء الكبرى. يناقش فيها الكوني الوجود، ومعنى الحياة، و"الصبر" بمفهوم أهل الصحراء، لكن الفكرة المركزية هنا حول البحث عن "واو المفقودة"، وهي واحة تقول الأساطير إنها موجودة في مكان ما في الصحراء، ومن وجدها فقد وجد السعادة، أو جنة الله في الأرض كما يقولون. مات الكثيرون في الصحاري عطشا، يبحثون عنها، ليفشي الكوني السر في نهاية الرواية؛ وهو أن الفردوس ما هو إلا في دواخلنا، ومن يبحث عنه في أي مكان آخر سوف يموت ذمئا.

إن الجنة المفقودة هي في صدر كل مخلوق، لكن الوصول إليها سيحتاج منه الكثير من الصبر، وأن يمن الله عليه بنعمة الاعتدال، إن الشقاء هو أن يتعصب الإنسان لأي شيء مهما كان نبيلا. في هذا المعنى يقول شيخ القبيلة في نقاشه مع الدرويش موسى حين سأله عن رأيه في مسألة ما: "أنا لا أظن شيئا، أجبرت نفسي منذ زمن بعيد على أن لا أظن أي شيء". 

يناقش الكون هنا أيضا مسألة استغلال الدين، كيف أن الدرويش الذي دخل القبيلة بغرض نشر الطريقة القادرية، انتهى به الأمر سلطانا مستبدا، يذل الناس، ويمعن في إذلال أشراف القوم لأنه الطريق الوحيدة نحو الله، ليختم الكون بمقولة متى الشهيرة "إياكم والأنبياء الكذبة، يأتونكم بثياب الحملان وهم ذئاب خاطفة". ولا يفوت الكوني هنا أن يذكر أن طريق الخلاص لا يمر بأي فقيه، أو طريقة؛ إنه ببساطة أن يكون الإنسان خيرا حقا، وما سوى ذلك من طرائق ومذاهب ليس سوى أوهام.

في النهاية سواء كان الرمز ضرورة كون الكاتب مقيدا، أو كان إبداعا تطوع به الكاتب مبالغة في الإبداع والعظمة، إلا أنه يبقى في كل الأحوال نوعا نادرا من الأدب يستحق الاحترام ويستحق بالتأكيد تلك الساعات التي ستمضيها في قراءته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.