شعار قسم مدونات

هل إرادتنا هي ملكنا أم مجرد وهم؟

blogs تفكير، تأمل

«إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر».. هذا البيت من النشيد الوطني يحمل معاني كثيرة منها قوة الإرادة على تغيير واقع وصناعة القدر، لكن مفهوم الإرادة بحد ذاته مسألة متشعبة خصوصا في عصر الإشهار والإغراء. الإرادة هي ترجمة لمفهوم الحرية التي يكتسبها الإنسان منذ ولادته وهي حق كوني وهبه الله لنا بالتالي كل شخص له حرية الفكر والفعل أي أن له الإرادة اللامشروطة للقيام بكلا الفعلين. لكن الإنسان لا يولد في غابة لا حدود لها ولا قوانين تتحكم فيها بل يأتي للحياة في مجتمع قائم على منظومة أخلاقية، اجتماعية، اقتصادية وثقافية تكون أرضية يمارس فيها حريته كما تمثل حدودها أيضا. تقييد الحرية وجد لضمان استمرارية المجموعة وكمبدأ للتعايش السلمي بين أفرادها حيث الكل يتنازل عن جزء من حريته لصالح المجموعة وتواصل الثقافة المشتركة ضمن المجتمع الذي يشّكلونه. إرادة الفرد تنبع من الرغبة، التي يحركها شيئان: الأحاسيس والغريزة. منظومة الأحاسيس لدى الإنسان تحتويها الذات والقيم التي يتبناها والتي بدورها تحدد ردود فعله تجاه الآخر بنفس قدر تأثرها به كقوة خارجية. حتى المفاهيم تتغير حسب تلك القوى الخارجية التي ترسم قناعات الفرد، مما يدفعنا للتساؤل هل إرادتنا هي نابعة من رغبتنا؟ هل هي نتيجة توّصلنا لها أم أنها مفروضة علينا؟

فلنأخذ على سبيل المثال مفهوم النجاح وهو هدف يطمح له كل شخص في حياته مهما اختلف السبب أو صورته. إن إرادة الشخص بأن يكون ناجحا تنبع من رغبته بالنجاح، وهذه الرغبة تتأتى من إحساسه بأن لديه المقومات اللازمة لكي يكون كذلك. أما ذلك الإحساس يرتكز بالأساس على قناعة كوّنتها فكرة تبناها منذ الصغر، بأنه ذكي وعبقري، والتي يمكن أن يكون أصلها والديه لكثرة ثنائهم عليه عند القيام بأي فعل صائب قصد اكسابه أكثر ثقة بنفسه. لكن هذا الإفراط جعل تلك الكلمات قناعة حملها الطفل في داخله حتى سن البلوغ لدرجة اقتناعه بأنه لا يمكنه أن يثبت ذاته إلا بالوصول لتحقيق مفهوم النجاح الذي تبناه منذ طفولته. لا يمكن للإنسان أن يعرف النجاح إذا لم يذق طعم الفشل وإذا لم يعرف الإنسان الفشل فذلك يعني انه لم يجرب في حياته. النجاح هو تراكم للخبرات المكتسبة من التجارب السابقة التي تبني مفهوم النجاح لدى الفرد، بالتالي يكون النجاح ثمرة تعب وإصرار لأن تحمله لهما نابع من إرادة حقيقية للنجاح. ليس لأن أحد أبويه أوهمه بأنه إنسان ناجح.

إرادة الفرد التي لا ترتكز على قناعات طورها شخصيا نتيجة تجاربه الشخصية لا يمكن اعتبارها حرة وهذه هي مشكلة عصرنا هي قلة خبرة الأفراد في الحياة ومع الدمغجة التي تقوم بها مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام

إن الذات الوحيدة التي تتمتع بإرادة حقيقة هي الذات الالهية، فعكس إرادة الإنسان التي تنبع من الرغبة، فإن إرادة الله تنبع من حكمته ولذلك فإن قوله للشيء كن فيكون لا يأتي من هباء لأن إرادة الخالق ليس أساسها نزوة وقتية او فكرة متأثر بها لكنها ترتكز على حكمته التي تعطي معنى وغاية من كل فعل وقول. وهذا ما نسميه بالإرادة الإلهية. لفترة كبيرة بقي الدين والمجتمع هي الأرضية التي تحتوي حرية الفرد وإرادته معتمدين العاطفة إلى أن جاء علم النفس الذي برهن أن رغبة الإنسان وإرادته لا يمكن فقط التحكم فيها بل يمكن أيضا إثارتها وتوجيهها عبر غريزته وأحاسيسه. إنها نفس الأدوات التي تعتمدها الشركات العالمية الرأسمالية ومؤسسات الإشهار والإعلام للتأثير في الشاري وتوجيه رغبته حتى وإن لم يكن ينوي الشراء، ومن هنا ظهرت القاعدة الذهبية للخبراء التسويق: «يجب خلق الحاجة لدى الفرد حتى وإن لم توجد».

هذا النظام أثبت نجاعته في التأثير على سلوك الأفراد ونمط عيشهم لدرجة خلق مجتمعات استهلاكية بامتياز وهذا ما اسميه بالوجه الجشع للرأسمالية التي هدفها خلق الحاجة لدى الأفراد لاستهلاك منتوج حتى على حساب إفلاسهم. المنتوج لا يقتصر على أكل أو لباس بل يمكن أن يكون فكرة، حزب سياسي أو حركة أيديولوجية، وهو أسلوب اعتمدته داعش لاستقطاب الجنود في صفوفها. مع مرور الوقت تطورت طرق التسويق والإشهار مع تحكمها بالإعلام لكونه أرضية عمل أساسية واسعة التأثير، ثم الإنترنت والتعليم ليصبح الاستهلاك ثقافة يتلقاها المواطن منذ طفولته. فيصير مستوى الاستهلاك معيارا لتحديد المكانة الاجتماعية. مع خلق مصطلحات كالموضة أو خلفيات نفسية كمصطلح التسوق «Shopping» الذي يصور على أنه وسيلة للترفيه وتخفيف الضغط النفسي. لكن الغاية الأساسية هي دفع المواطنين للاستهلاك والشراء أكثر.

إن النظام الاقتصادي العالمي خلق مجتمعات، يكون فيها الاستهلاك وسيلة لإثبات الذات. بحيث أن إرادة الشعوب أصبحت خاضعة لإرادة شركات معينة تحدد الذوق العام وقيم المجموعة. هذا الجشع الذي بنى هذه المنظومة العالمية ساهم في حفاظ الدول المتقدمة على هيمنتها على دول العالم الثالث التي عوض أن تتبنى مشاريع تنموية حقيقية وتحول طاقة شعوبها لبناء اقتصادات تنافسية صلبة تمّكنها من التصنيع والمساهمة في الاقتصاد العالم صارت شعوبا استهلاكية تستورد فقط، مما عزز الهيمنة الاقتصادية الخارجية على السوق المحلية وحدّ من قدرة الدول على مجابهة هذا التمدد الذي لم يترك لها إلا مجالات محدودة في الإنتاج والتصنيع، والتي لا يمكنها أن توفر مواطن شغل تتماشى مع المستوى العلمي لشباب الوطن أو من تحسين القدرة الشرائية، بالتالي تبقى دائما تحت تبعية الدول الكبرى.

هذا ما تعاني منه تونس حيث أن إرادة المواطن لم تعد تخضع لرغبته بل هي متحكم بها من قبل قوى خارجية. فعوض أن يركز المواطن على مشاكله الحقيقية تجده مشتت بين إشهار هاتف جديد يريد شرائه أو برنامج تافه يريد مشاهدته، بالتالي تبعثر تلك الطاقة بدون فائدة. حتى وإن كانت ثقافة الاستهلاك مشكلة عالمية لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار احتمالية انهيار هذا النظام خصوصا وانه يتسبب في تفقير الشعوب حتى شعوب الدول المتقدمة التي صارت تعاني من الغلاء وضعف القدرة الشرائية، اذكر بذلك احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا. إن الوضع العالمي غير مستقر وأي انزلاق يمكن أن يؤدي الى مواجهات فتاكة بين شعوب تعودت الحصول على ما ترغب به حتى على حساب تدمير الآخر. الشعوب الناشئة والتي نحن منها يجب أن تضع مخطط لمجابهة التحديات العالمية والإقليمية، ذلك عبر بناء دولة منتجة مكتفية ذاتيا يمكن أن تتعامل مع التحديات الداخلية والخارجية ولا يمكن أن يكون ذلك بدون إرادة نخبتها ببناء منظومة اجتماعية متماسكة أساسها نموذج اجتماعي يوّحد المواطنين حول قضية مشتركة وهي استمرارية الأمة ونجاحها.

إن إرادة الفرد التي لا ترتكز على قناعات طورها شخصيا نتيجة تجاربه الشخصية لا يمكن اعتبارها حرة وهذه هي مشكلة عصرنا هي قلة خبرة الأفراد في الحياة ومع الدمغجة التي تقوم بها مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام بصفة عامة فان ذلك يوهم المواطن أنه قد عاش تجارب، كقصص الحب الفايسبوكية أو الجولات الاستكشافية في القنوات التلفزية. إن تلك المنصات الاعلامية هدفها تحفيز غرائز وأحاسيس الفرد بوسائل غير الطرق الطبيعية لكي يسهل توجيه رغباته وخياراته عبر زراعة قناعات وأفكار جديدة. فيصبح الفرد يعيش في وهم حرية الاختيار لأن رغبته في الحقيقة موجهة.
لا يمكننا الاختلاف على أن الإرادة حق كوني، لكنه حق يكتسب فحرية الاختيار لا يمتلكها كل البشر بل في بعض الأحيان لا يستحقونها لأنهم لا يعرفون قيمتها ويفضلون العيش في فقاعتهم الهشة التي أساسها المادة والشهوات. بالتالي يعيشون في وهم السعادة والركض ورائها من خلال الاستهلاك والخضوع. لذلك لا يجب التعامل مع المواطنين على أنهم اداة التغيير بل يجب التعامل مع المنظومة التي يمارسون فيها حريتهم كأداة تغيير لأنها هي من تخلق الارادة وتوجهها حسب الحاجة. يجب اعادة برمجة المنظومة لخلق ارادة التغيير لدى الأفراد لإعداد الأمة للتحديات القادمة نظرا لأهميتها على استمراريتنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.