شعار قسم مدونات

"أين أشيائي".. بين مغول الأمس ومغول اليوم

blogs المغول

تبدأ الحكاية عندما يقول جنكيز خان موحّد المغول الرُّحّل في القرن الثالث عشر: (من أطاعنا ورضي أدخلناه في رعايتنا، ومن تمرّد وتجبّر ندمره بسياط البلاء). سياط بلاء المغول لا تخفى على أحد، فقد قرأنا وسمعنا عنها الكثير والكثير، وغالب التصوّر الذي يسيطر علينا أنّ المغول مقاتلون همج، قتلة، سفّاحون، ومجرمون. أمّا بقيّة القصة التي نعرفها أن المغول تحرّكوا من منغوليا ودهسوا كل من مرّوا عليه "مسافة السكّة كما قال سفّاح مصر"، حتى وصلوا فلسطين ثم هزموا على يد جيش خرج من مصر يتقدمه سيف الدين قطز وسلطان العلماء العز بن عبد السلام، في معركة عين جالوت الخالدة.

 

جنكيز خان وبعد أن امتدت الرقعة الجغرافية التي يحكمها لمساحة مهولة جدّاً، كتب (الياسق) أو دستور المغول، والذي استمدّ أغلب مواده وأحكامه من الدين الإسلامي، مع خلطة غريبة من المسيحية واليهودية، وقليل من آراء جنكيز خان نفسه. الياسق الذي التزم به الجنود المغول حرفيّاً وطبقوه تطبيقاً دقيقاً كان ينص على ما يلي:

– يمنع الياسق من التعصّب لأي ملّة دينية، وكذلك التعصب للمذاهب.

– جنود الجيش المنغولي عليهم من الضرائب ما على الشعب تماماً.

– منع الياسق تفخيم الألفاظ حتى للسلطان نفسه، وكان ينادى على الجميع بأسمائهم مجرّدةً، بينما.. مثلا الخلفاء العباسيين في ذات الفترة كان يسبق أسماءهم عدد كبير من الألقاب، كما منع الياسق الربى، وألغى امتيازات كبار التّجار.

– كان لياسق جنكيز خان لمسات إنسانية، فقد كان يمنع أن يشبع الجنود والأسرى جوعى، وأعفى فئات من الضرائب منهم العلماء، المؤذنين، الفقراء، وحتى مغسلي الموتى، ونسل الإمام علي –رضي الله عنه- بالرغم من أنّ المغول أبادوا طوائف كاملة من الشيعة، ليؤكّد بذلك جنكيز خان أن الحرب ليست حرباً دينية، بل هي حرب سياسية فقط.

وفي نهاية هذا كان يخيّر الناس بين الياسق أو الموت.

 

جنكيز خان كان يغري المسلمين بعدل الياسق ومعاملتهم برقي وتحضر مع أكبر دولة في العالم، كما يفعل الغرب اليوم، ولأن حكامهم لطالما كانوا يمضغون شعارات دينية جوفاء لا قيمة لها

وسط آسيا في ذلك الوقت كان أغلبه تحت حكم الدولة الخوارزميّة وسلطانها "علاء الدين محمّد بن خوارزم شاه"، الذي كان يُحارب السلاجقة المسلمين من طرف والخليفة العبّاسي من طرف آخر، كانت الدولة الخوارزمية تبيد مدناً إسلامية بالكامل في حال رفضت تلك المدن حكم دولتهم. ما يعرفه كثيرٌ منّا من خلال دراسة التاريخ الذي كتبه العرب عن تلك الفترة، أن المغول اجتاحوا الدول الإسلامية بدافع الحقد والكره على الإسلام والرغبة في دحر الإسلام والمسلمين.

 

الحقيقة أن خوارزم شاه هو من جرّ المغول للمدن الإسلامية بعد أن قام بسرقة قافلة تجارية وقتل تجّار كان قد أرسلهم جنكيز خان بنفسه ليتبضعوا له من أرقى أنواع البضائع في العالم، وكان في قافلة جنكيز خان أيضاً أشياء ثمينة أرسلها لتبادلها مع التجار المسلمين في إحدى المدن التي تقع في حكم خوارزم شاه، وبيعت أشياء جنكيز خان للتجّار وقبض خوارزم شاه بنفسه ثمنها، وعندما وصل الخبر لجنكيز خان بدأ حينها غزو المغول التتار لبلاد المسلمين، تحت شعار (أين أشيائي؟!!).

 

جنكيز خان بقتله لملايين البشر من المسلمين كان يبحث عن أشيائه، فعلام يبحث بشار الأسد عندما يقتل أبناء شام العز، هل كانت سوريّا مزرعة أبيه حافظ؟ علام يقتل السيسي المصريين الشرفاء في رابعة والنهضة، هل كانت قاهرة المعز التي كسرت جبروت المغول هي ملك من أملاك جد السيسي؟! الذي بالمناسبة كان لا يملك إلا (الميّة لعشر سنوات)، علام يبحث أسير الحرب حفتر عندما يدك درنة وبنغازي بطيران إماراتي وفرنسي، هل كانت ليبيا ملكاً لأبيه أو لجدّه، علام يبحث البشير في السودان؟ علام يبحث تحالف الشر المحاصر ليمن الحكمة؟ علام يبحثون هل الشعوب من أشيائهم؟

 

المسلمون في عهد جنكيز خان شبيهون جداً بالمسلمين اليوم، رموا أنفسهم في أحضان الياسق بحثاً عن عدلٍ لم يصيبوه في خلافة عباسية ولا في دولة خوارزمية كان وظيفة جنودهم الأولى هي حماية محمد بن خوارزم شاه، أو الخليفة العباسي، بينما كانوا يحيلون المُدن التي يَدخُلُونَها إلى فوضى عارمة من السرقة والنهب والتحرش، تقريبا كما يفعل عسكر السيسي والبشير وحفتر عند قيادتهم لسيارات بدون لوحات، والقيادة بعكس الطريق كمثال بسيط.

 

جنكيز خان كان يغري المسلمين بعدل الياسق ومعاملتهم برقي وتحضر مع أكبر دولة في العالم، كما يفعل الغرب اليوم، ولأن حكامهم لطالما كانوا يمضغون شعارات دينية جوفاء لا قيمة لها، وليس لها أي مردود على حياتهم، كان لإغرائهم بالياسق تأثيراً سريع، فأصبح المسلم يخذّل المسلمين عن قتال المغول، بل أصبح المسلمون يساعدون عدوّهم الذي أباد إخوانهم ودمّر المدن الإسلامية، لكن ما كان يدور في ذهن من يفعل ذلك، أنّ عسْكَر خوارزم شاه وعسكر الخليفة العباسي المتواطئ مع الفسدة هل هم عسكر الإسلام بحق؟ والممالك والبلدان التي كان همّها أن تحارب بعضها، هي مدن الإسلام بحق؟

  

حالة الشعوب الإسلامية البائسة كانت تائهة تماماً لدرجة أن لا تعرف العدو من الصديق، وما ذلك عنّا في ليبيا ببعيد، ألم يلتف قسم كبير من الشعب خلف ربيبٍ للمخابرات الأمريكية، الشعوب كانت في عهد المغول قد فقدت البوصلة، والانتماء، في المقابل كانت آلة الدعاية للعدو تشتغل بفاعليّة وكفاءة، كقنوات الثورات المضادة اليوم، ابدأها بقناة العربية المُموّلة من آل سعود مروراً بكل القنوات المصرية المُموّلة بالمال الإماراتي الملطخ بدماء الأتراك في انقلاب 15 يوليو 2016 وبدماء الليبيين منذ 2014 وحتى اليوم، مرورا بأقبح الأموال التي أنفقت لقتل شباب مصر منذ 2013 وحتى إعدام التسعة منذ أيام، (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة).

  

لِيعلم كلّ من يناضل ليكسر الموجة الكبيرة للثورة المضادة أن عدداً كبيراً من الناس يعجزون عن اتخاذ موقف حاسم، فيميلون إلى تأييد الاتجاه الغالب،

آلة إعلامية ضخمة تسوّق لواقع لا يجده الناس على الأرض من جهة، وآلة ترهيب أخرى أكثر بؤسا من سابقتها، ترهب أي أحد يفكّر حتى مجرد التفكير في التردّد في الوقوف في طوابير الجوقات التي تعزف بحمد المنقذ الوحيد، آلة يقودها حمقى لا يترددون في إعدام أي شخص فقط ليرهب البقية، وما من مثال عن آلة الترهيب أوضح ممّا فعله ضابط الإعدامات محمود الورفلي التابع لحفتر، من إعدامات ميدانية بدون محاكمة، وما فُعل بالإعلامي جمال خاشقجي في سفارة بلاده التي كان يجب أن تكون بيته الثاني.

  

لكن!! ليعلم من يعمل من أجل أن تَنَالَ الأمّة حرِّيّتها وكرامتها بحقّ، وأن تعُود الأمّة لتقُود الأمم، أنّ المغول أشرف بمئات المرّات من حكّامنا اليوم وهم يُجاهرون بنُبَاحِهِم لبني صهيون، وهُم يتفاخَرُون بالقواعد العسكريّة الموجودة على أراضيهم، ولِيعلم كلّ من يناضل ليكسر الموجة الكبيرة للثورة المضادة أن عدداً كبيراً من الناس يعجزون عن اتخاذ موقف حاسم، فيميلون إلى تأييد الاتجاه الغالب، أو ما يظنونه كذلك، لذا فإن عليكم أيها الأطهار إبراز الثورة والعدالة على أنهما اتجاه له حضوره وانتشاره، وسيدفع ذلك كثيرين إلى تبني موقفكم تدريجيا، لأن الأغلبية تظن أن وسائل الإعلام تعبر عن قناعات الناس، فيزداد صمت المعارضين كلما نجح الإعلام "التلفزيوني خاصة"، في إقناعهم بأنهم أقلية.

 

عليكم أيها الأطهار بأن تعلموا أن التجارب الشخصية المُحبطة – مع الأصدقاء أو الأقارب- لا يجب أن تتخذ كمعيار لقياس توجهات الناس، وأن "كسر دوّامة الصّمت" ليس بنشر الآراء المعارضة والترويج للأفكار الثورية فقط، فالاكتفاء بذلك غالبا لا يُحدِث تأثيرا كبيرا لأن الظلمة يتحكمون في وسائل الإعلام الجماهيرية، إنما "كسر دوامة الصمت" لن يتحقق إلا بأنّ يقتنع الناس بأن الاتجاه السائد هو الخوف من معارضة النظام، وليس تأييده.

 

الشعب هو موضوع الصراع، نجاح أي أمر يتوقف على إدراك هذه الحقيقة وتمثلها واقعا. وكما بدأت الحكاية بقول جنكيز خان: (من أطاعنا ورضي أدخلناه في رعايتنا، ومن تمرّد وتجبّر ندمره بسياط البلاء)، فإن حكام اليوم يرددون بظلم (من أطاعنا ورضي أخذنا ماله واستعبدناه، وأنشأنا له صناديق تعمير ما دمرنا وصناديق تحيا مصر وسوريا، ومن ثار دمرناه بتحالفنا مع روسيا وأمريكا).

  

والمتأمّل لواقع الأمة وما تشهده من عجز وفقر وضعف ومهانة وتشرذم يدرك معنى قول الشاعر:

وجُرمٌ جرّهُ سفهاء قومٍ .. وحَلّ بغيرِ جَارمِهِ العذابُ

 

ولا تَسَلْني من هم سفهاء القوم الذين قصدهم الشاعر، لأنك إن جهلتهم لن تعلم بعد هذا الجهل شيئاً، حتى أنك لن تعلم أن السفهاء ليس لهم عندنا شيء، ولا يستطيعون أن يصيحوا حتى بـ (أين أشيائي).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.