شعار قسم مدونات

أبشري فأنت أجمل مما تعتقدين!

blogs امرأة

من أخبرك أن جبينك الواسع يفسد تضاريس وجهك المميزة؟ وأن أنفك المقوس المدبب الضخم عثرة حظ تلوح للناس على بعد أمتار أن تنحوا فثمة أنف قادم ليفسد يومكم؟ من جعلك تؤمنين أن عيناك الصغيرتان لا تناسبانك لأنهما لا تعجبان أحد، فالشعراء والكتاب منهمكون بالواسعات الكبيرات الملونات؟ وأوهمك أن شفتيك الرفيعتين تبدوان كحبة فطر يابسة لا حياة فيها؟ وأقنعك أن آثار البثور على جلدك يبديك كصحن عدس متنقل؟ وأن خديك كتلة مأساوية ما دامت خالية من الغمازات؟ من كذب عليك وزرع في دماغك تعريفا ساذجا للجمال، قلصه في صور معينة دون غيرها وأرغمك على قضاء الليال الطوال في التفكير بكيفية ترميم حظك العاثر ومسح خلقتك واستبدالها بتلك التي يجمع "الجميع" أنها الأمثل؟ أبشري إذن فقد كذب عليك، أرخي حاجبيك المقطبين فأنت أجمل مما تعتقدين!

 

إن وضع معايير للجمال أمر ليس بالجديد، فقد نقل التاريخ تفرد كل مجتمع على حدى بتفاصيل معينة كان يرى فيها قمة الجمال، تختلف تلك المعايير من مجتمع لآخر وتختلف أيضا بمرور الزمن، فلا عجب أن نساء أوروبا كن يحلقن حواجبهن ومقدمة شعرهن للحصول على جبين واسع، ويكثرن أكل السكريات لتسوَدّ أسنانهن ويواكبن بذلك الموضة، وأن الصينيات كن يتعذبن للحصول على أقدام صغيرة، وأن النساء في حضارة المايا كن يربطن على جماجم الصغيرات لتكبر محدودبة ممتدة فغي ذلك جمال فتان، ولا تستغربي أن الكلف الذي يميز الصهباوات الآن والذي صارت الفتيات يرسمنه بالحناء على خدودهن كان قديما علامة قبح، وأن اليونانيين قديما كانوا يعشقون ذات الحواجب المتصلة، ولا مفاجأة أيضا أنه في الماضي القريب كان الجميع يتسابق لنتف الحواجب وجعلها رفيعة رقيقة بينما اليوم يتم تكثيفها بالمساحيق.

 

إن التنوع في تصنيف الجمال وعنونته ووضع المعايير له عبر العصور والحضارات يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الجمال لا معايير تحكمه ولا مقاييس تحده، لأن الأمر لو كان كذلك لما كان هناك اختلافات حوله ولكانت المعايير هي نفسها منذ القدم، تجمع عليها فطرة موحدة لا تتغير ولا تتبدل، تجعل البشر أجمعين مذ بعثوا في الارض يحبون شكلا موحدا للعين والأنف والفم والوجه، ولكننا نحن البشر فطرتنا عكس هذا تماما، فطرنا على الاختلاف والتنوع، وأذواقنا تتمايز من شخص لآخر فما بالك بالمجتمعات، قد يعجبني شكل ما ويراه غيري قمة القبح والعكس صحيح، فمنا من يهوى العيون الملونة ومنا قيس انفطر قلبه في عشق السوداوين، ومنا من كان يوما يهوى الحاجبين المتصلين ومنا من يرى في اتصالهما شرك يستحق النتف!

 

تلك الملامح التي لا ترضين بها قد تبدوا للبعض عادية جدا ولا عيب فيها وقد تبدوا لآخرين كثر ذروة الجمال وقمته، لأن الجمال مفهوم مجرد تختلف فيه الأذواق

ولكن العالم اليوم تغير ومع توسع العولمة وانتشار وسائل التواصل أصبح مجتمعا مصغرا مكثفا يضع القوانين فتشمل العالم بأسره ويخضع الكثيرون لها، حتى صارت معايير الجمال معلومة معدودة تتقزم في صورة واحدة، يحاول الجميع تقليدها فيلجأ لعمليات التجميل ومساحيقه، والحصيلة كما لا يخفى على أحد نسخ مكررة متشابهة تتشارك في الشفاه التي تشبه المنطاد الهوائي والرموش الاصطناعية التي تمتد مسافات خارج نطاقها الطبيعي وخدود منفوخة كبالونات عاشوراء وكونتور وإضاءة وشد وتعديل ونفخ وتلوين دسم يدفن الحقائق الطبيعية التي لا عيب فيها سوى شعور توارى خلف أروقة اللاوعي يخبر صاحبته أنها قبيحة.

 

وهذا طرح للساحة مفارقة جديدة راحت ضحيتها الكثير من النساء على غير وعي وإدراك، ويتمثل ذلك في أن الصورة المثلى للجمال الآن أصبحت عالمية تتطلع إليها النساء ويفصلن على إثرها وجوههن وهن على كامل التيقن بأن تلك الصورة هي الجمال بعينه وفي أسمى حلله فقد اتفق عليها "العالم بأسره"، بينما الحقيقة أن من اتفق على تلك الصورة فئة ضئيلة هي نفسها التي تستفيد من دراهمك حين تشترين منتوجاتهم لتغيير جغرافيا وجهك. وهكذا تتكرر نفس التفاصيل على كل الوجوه فترى في كل منهن كيم كارداشيان بطريقة أو بأخرى، بل ويبلغ سوء التقدير ببعض الحالات الوقوع في خطأ عملية تنفيخ تفسد التناغم الطبيعي للملامح في الوجه فيلجأن للمزيد من العمليات أو للإكثار من المساحيق لعل ذلك يصلح شيئا مما ضاع فتكون الهيئة النهائية مخلوقا غريبا تشم ريح الزيف فيه من على بعد مسافة لا بأس بها.

 

إن الانصياع للإعلانات والمواد الإعلامية التي ترغمك على تغيير طبيعتك وتقنعك أنها حاجز لابد من تجاوزه ذنب لا يغتفر، ستكتشفين ذلك بعد حين، حين تظهر الآثار الجانبية للمواد الغير آمنة التي تقحمينها كيانك، وحين تكتشفين أن تلك التغييرات لم تجعل منك جميلة كما توقعت لأن الكثيرين من حولك اشتاقوا لوجهك الطبيعي العفوي، والأسواء أن تكتشفي ذلك بعد خطأ يعجزك على العودة لما كنت عليه، خطأ يجعل ترميم وجهك استحالة محزنة تزج بك إلى سجن الندم فينهار كل شيء وما أكثرهن من وقعن في شرك الصورة المثالية للجمال فتغير كل شيء بعد ذلك.

 

هذا لأنه كما سلف الذكر تلك ليست سوى أيديولوجيا مغلوطة تجارية بحتة تستغلك، فالحقيقة هي أن تلك الملامح التي لا ترضين بها قد تبدوا للبعض عادية جدا ولا عيب فيها وقد تبدوا لآخرين كثر ذروة الجمال وقمته، لأن الجمال مفهوم مجرد تختلف فيه الأذواق ولا قوانين تحكمه، وعلى قول الفيلسوف ديفيد هيوم "الجمال ليس خاصية في ذات الأشياء وإنما في العقل الذي يتأمله"، أي أن الجمال ليس خاصية يتفرد بها شكل معين من الملامح وإنما صفة يعطيها العقل المتأمل لما يروق له بشكل عشوائي بحت، وهذا ما أسلفت توضيحه في كون البشر يختلفون في أذواقهم وما يعجب فلانا ليس شرطا أن يعجب الجميع، ومن هنا أدلي بشهادتي أن تلك الصورة النمطية التي تتناقلها السوشيال ميديا اليوم لا تروقني البتة وأنا على يقين أن هناك الكثيرون مثلي لا يروقهم الزيف الدسم.

 

ثم أخيرا عليك أن تدركي بعد هذا كله أن ذاتك هي الوحيدة التي كانت ولا زالت معك في كل لحظة من حياتك، معك حين تنامين وحين تأكلين وحين تفرشين أسنانك وحين تزورين الأقارب وحين تجلسين أمام المرآة، لذلك ليس من العدل أن لا ترضي عليها كما هي وتقنعيها أنها ليست بحاجة لشيء لتبدوا أجمل فهي أصلا كذلك، بتفاصيلها التي تميزها دون غيرها، وكوني على يقين أنك إن لم تنجحي في الرضى عن ذاتك والاقتناع بها لا أحد سيرضى عليها، وإن لم تطردي ذباب الأكاذيب عن الجمال وتصري على أنك أذكى من أن تنطلي عليك، سيلهيك ذلك حتما وينسيك انك كيان مميز هناك الكثير مما يجب أن يتطلع إليه ويهتم به ليزيده تألقا وجمالا، أبعد جدا من مظهر مصيره الفناء، أنت أجمل مما تعتقدين بطبيعتك وعفويتك وروحك وعقلك وذكائك ولا تحتاجين سوى للتنبه لذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.