شعار قسم مدونات

المثالية.. بين المشاعر المزيفة والأدوار المصطنعة!

blogs نجاح

عن أنس رضي الله عنه: "أنَّ رجلًا من أهل البادية كان اسمه زاهرًا، يهدي النَّبي صلى الله عليه وسلم الهديَّة من البادية، فيجهِّزه النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال رسول الله: إنَّ زاهرًا باديتنا، ونحن حاضروه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّه، وكان رجلًا دميمًا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه، ولا يبصره الرَّجل، فقال: أرسلني، مَنْ هذا؟ فالتفت، فعرف النَّبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يَأْلُو ما ألصق ظهره بصدر النَّبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله، إذًا والله تجدني كاسدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن -عند الله- لست بكاسد. أو قال: لكن -عند الله- أنت غال.

لا تكن مثاليًا فأنتَ بشر تصيب وتخطئ، تحب وتكره، تمرض وتشفى، تقوى وتضعف. كن دومًا على سجيتّك، وكف عن تقمص الأدوار التي تبدو بها للآخرين؛ وكأنَّكَ آتٍ من عالمٍ آخر. كمالك في كونك أنت لا غيرك، والطبيعة الحقَّة أن تتصرف بجبلّة طبيعية عفويّة دون أن تُظهر للآخرين أنَّكَ مميز، أو تختلف عنهم. لا تُحاول أن تصنع لك أكثر من شخصيّة؟ من أجل جلب انتباه الآخرين واهتماماتهم. هل أضحينا ممثلين! لماذا لا تكن إنسانًا عفويًا؟ بدون أن تُسدي لنفسِكَ مزيدًا من التّصنع، والتكلف، والزيف الذي سيذوب سريعًا. الناس دائمًا تميلُ إلى الذي يكونُ قريبًا من أرواحهم، حكاياتهم، مآسيهم، يتسامرُ معهم يُشاركهم ضحكاتهم. حتى لو كُنتَ ذو مكانة اجتماعية، أو تحمل شهادة دراسات عليا… إلخ، (راجع تدوينة "الرحمة أعظم من الحب.. رفقا بأصحاب الأرواح المتعبة!").

الشخصية المتخيلة.. بين الحقيقة والوهم
لا شيء يدوم على حاله، إن كنت غنيًا سيأتي يوم وتكون بلا مال، وإذا كنت تحمل شهادةً في أي مجالٍ سينتهى وقتها، وإذا كنت مسؤولًا سُتقال قريبًا وتنتهي من الخدمة. لماذا لا تكسب قلوب الناس؟

لا تجعل مثاليتك حاجزًا مانعًا عن تعاملك مع أصناف الناس بشكلٍ طبيعي. لا يُمكن أن تفرض شخصيتك أمام الآخرين بشكلٍ ناجح، وتقدير محبة الناس إليكَ؛ إلاّ بأسلوبك. كن على قناعة أنَّكَ لن تصنع منك قدوة للآخرين والتسلل إلى قلوبهم؛ ما لم تنزل لمستواهم، وتتساوى معهم بروحكَ، وقلبك وأسلوبكَ. قال الله تعالى: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا" (الفرقان من الآية:63). قال ابن القيِّم: "أي: سكينة ووقارًا، متواضعين غير أشرين ولا مَرِحين ولا متكبِّرين". وقد نهى الشرع الحنيف عن التكلف والتصنع وإظهار الإنسان وجهًا آخر غير حقيقته، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهينا عن التكلف" رواه البخاري.

المثالية والتكلف في التعامل مع الناس تصنع منَّا شخصيات "وهميّة مشوّهة"؛ لأننا نتصرف على غير طبيعتنا المُعتادة، ونصاب بالخيبات والأمل، وفقدان الذات، والانصهار داخل أنفسنا؛ حينها نصبح أكثر الناس سطحيّة، ونمطية، وتناقُضًا؛ لأنَّنا نقوم بأداء الأدوار المصطنعة بشكل متكرر وفق تقاليد معينة. نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شاب نكس رأسه، فقال: يا هذا ارفع رأسك؛ فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب؛ فمن أظهر للناس خشوعًا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقًا على نفاق". 

لماذا نعقد أنفسنا؟ ونتناسى بشريّتنا، ونبدو على غير حقيقتنا؟ هل هو عدم الرّضا عن الّذات؟ أو فشلاً في شخصياتنا؟ لماذا يسكننا هاجس أن نبدو دومًا مثاليين؟، مشيتنا غريبة، كلامنا مصطنع، خلافاتنا تُغلفها الأنا الفردية، لباسنا طاغٍ في شكله ومضمونه، هل أضحينا ممسوخين! يقول الشيخ سليمان العودة -فك الله أسره- من سجون آل سعود: "البساطة.. تعطيك عمراً إضافياً وتمنحك شخصيتك الحقيقية، وتساعدك على أن تعيش كما أنت لا كما يريد الآخرون منك. البساطة تختصر لك الصداقات، والعلاقات، والكلام.. وكل مناشط الحياة، وتدَّخر لك منها الأجمل والأصفى والأعمق. والرسمية والمجاملة ومجاراة رغبة الآخرين تقضي على العمر، وقد تصحو في نهاية عمرك على ساعات مهدرة وضائعة".

صناعة السعادة.. والمتعة الحسية

لا شيء يدوم على حاله، إن كنت غنيًا سيأتي يوم وتكون بلا مال، وإذا كنت تحمل شهادةً في أي مجالٍ سينتهى وقتها، وإذا كنت مسؤولًا سُتقال قريبًا وتنتهي من الخدمة. لماذا لا تكسب قلوب الناس؟ فهم النجاح الحقيقي الذي يحققه الإنسان خلال حياته. أن تكون طيب السمعة، رحيم القلب تحبه الناس، وتقترب منه؛ لأنه مصدر محبة وسعادة.. كسب القلوب أولى بكثير من بعض الأمور الوقتية، لا تصنع لك أعداء؛ فأنت بغير الناس والعلاقات لن تستطيع أن تُمارس حياتكَ بشكلٍ طبيعي، حتى لو تعامل معك البعض سيكون بأسلوب التقية، وسيأتي اليوم الذي يذوب فيه الجليد لتعرف حقيقتك عند غيرك.

الكلمة الطيبة ترياق يمكنك أن ترسم بها بسمة، وتُزيل بها غُمَّة.. الجبروت والقسوة لن تصنع لك إلا جنوداً غير حقيقيين بدون ولاء وانتماء حقيقي، ستكون أنت الكذبة الكبرى التي كذبت عليك، وأنت تحسب أنَّكَ تُحسِنُ صُنعًا.. لماذا لا تضع رأسك على وسادتك، وأنت مرتاح الضمير؟ نقي السريرة؟ صناعة السعادة للآخرين من أعظم المُتع الحسية التي يشعر بها المرء، والوقوف معهم من أجلّ الخدم التي تقدم لهم. سعادة الغير لا يجدها إلا من طهر قلبه، وامتلأت روحه محبةً للآخرين. قيل للحسن البصري: ما التَّواضع ؟ قال: التّواضع هُو ألا تَرى مُسلمًا إلا وتَظنّ أنهُ خيرٌ مِنك.

اﻷنانية المفرطة تجاه الذات

المشكلة التي يكتشفها الناس عادةً إلّا في أواخر حياتهم؛ أنّهم فكروا في أنفسهم أكثر من غيرهم، وتعاملوا بأنانية مُفرطة اتجاه الآخرين وخسروا أشخاصًا لا يقدرون بثمن من أجل منافع لن تدوم طويلًا، وبعد ذلك نرجع إلى وعينا وبدل أن نعترف بهفواتنا وأخطائنا نسوق المبررات والظروف التي جعلتنا نتصرف هكذا.. إلى متى سنبقى غير مُتزنين نعيش على الأنا؟، ومتى سنعي أنَّ هذه الحياة لا تُعاش إلا بالتعاضد، والمحبّة؟ وأنَّ الانزواء والتقوقع في مكانٍ بعيد هو هروب من إنسانيّتنا. وعدم تحمّل أنفُسِنا. عوضا عن تحمّل الآخرين. 

يجب أن تخلوا حياتنا من هذه الممارسات والشعائر المزيّفة، فلنكف فورًا عن ذلك، ونرجع إلى حقيقتنا. وأن نُقوّمَ أنفُسنا بين الحين والآخر لنكون أكثر اتساقًا مع ذاتنا، وأفكارنا وتعامُلنا مع الناس. نحن في حقيقة الأمر نتلاعب بالوهم وننتج منه حقيقة خاوية وفاقدة للبقاء والاستمرارية. أنت في حقيقة الأمر تتمرد على شخصيتك، وضعفك وعدم رضاك عن أدائك إذا أنت ترفض نفسك؛ وهذا ليس الحل؛ وإنما الحل يكون بإصلاح نفسك، وتقويمها وارجاعها إلى كنهها، وحقيقتها، فلا تتعمد إغواء الغير بتقمص غير حقيقتك. نحن نحتاج لشيء يجعل لحياتنا معنى. يجب أن نكف عن اظهار أنفسا للغير من أجل الظهور والمباهاة.

كن أنت.. لا تكن غيرك؟

لا تبحث عن نفسك بين الآخرين؛ فهذا الجهل بعينه، فأنت من تملك ذاتك، وشخصيتك وأفكارك، ونجاحك، وفشلك. الاتجاهات كُلها أنت تملكها فقط حدد المسار الصحيح وسر به وحدك. امضي قُدمًا وأنتَ تعي حقيقتك أكثر من غيرك، لا تُرغم نفسك على الضحك وأنت لا تريد ذلك، ولا تُرغم نفسك على البُكاء وأنت تصطنع ذلك، ولا تكن غيرك وأنت لست أنت، الطبيعة الربانية، والجمال الحقيقي للشخص؛ هو عدم اجتزاء شخصيته وتوزيع أدوارها في مهامٍ ليست من طبعه. لذلك تجنّب التكلف، والمبالغة في أي شيء بالحياة؛ حتى تبدو في أكثر حالاتك صدقًا وأنت ترتدي ثوب العفويّة، ولا تُحمّل نفسك ما لا تُطيق. ركز على ما تملكه في داخلك من حقيقة غير مصطنعة حتَّى تشعر بالسعادة والتماهي بين قوام شخصيتك وأفعالك فهذا هو الجمال الحقيقي النابع من الفطرة السليمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.