شعار قسم مدونات

الأقصى.. المسجد المزروع في قلوبنا

blogs - القدس

وُلدتُ في الغربة، ونشأت في بيت كانت الصورة الوحيدة المُعلقة فيه صورة كبيرة للمسجد الأقصى المبارك، يظهر فيها كل ما داخل السور، وكنتُ أسأل أبي: أي القبتين المسجد الأقصى؟ فكان يُخبرني أن كل ما داخل السور المسجد الأقصى، وأن هذه قبة الصخرة، وتلك قبة المسجد القبلي، وعندما أحسنت القراءة قرأت توضيحات الصورة جميعًا، هنا باب الأسباط وهناك قبة السلسلة وذلك سبيل قايتباي.. وهكذا حتى صرت أخال نفسي أسير فوق أرصفة المسجد الأقصى وتحت زيتونه وأتنقل بين بوائكه وأُصلي في مصلياته وأجلس لأقرأ القرآن في ساحاته، لقد زُرِعَ المسجد الأقصى في روحي قبل أن أعاينه.

وإذْ وُلدتُ ليلة بعد ذكرى الإسراء والمعراج، فقد أخبرني أبي أنه كان ينوي أن يُسميني "إسراء" لولا رغبة والدتي، وحدثني عن القصة التي قرأتها مرارًا فيما بعد، ومطلع سورة الإسراء، الذي زاد شوقي للمكان الذي بارك الله حوله. كنت كلما حطت بنا رحال السفر على أرض فلسطين تمنيت لو تسنح لي فرصة ما لأزوره، لكنها لم تكن إلا عندما استقر بنا المقام في قريتنا، ما بين القدس ونابلس. شعور ما بالذهول أصابني وأنا أسير في ساحاته، وأنظر إلى معالمه، وأستشعر الهيبة بين جنباته، ونعمة الصلاة فيه لأول مرة وأنا في الثانية عشرة من عمري، وعُدت وفي قلبي شوق أكبر إليه.

علينا أن نحمل حُب المسجد الأقصى المبارك إلى أبنائنا وأحفادنا، كي يحفظوه في قلوبهم ويتعهدوه برعايتهم ليكون لهم قِبلة الرحيل الأولى

بدأت الانتفاضة الثانية بعد ذلك، وذُقنا مرارة الإغلاق التعسفي والمنع من التنقل، وصار الحصول على حاجاتنا الأساسية صعبًا، وحيل بيننا وبين المسجد الأقصى. ولسنوات تلت لم أتمكن من الوصول إليه إلا بعد حين، في زيارة استثنائية، إذ تمكنت من التجول في المسجد الأقصى وتبين معالمه، فزرت المكتبة الختنية، والمصلى القبلي، والمصلى المرواني، ورأيت المآذن وطفت على الأبواب والبوائك، وصليت ما شاء الله لي في أكثر من موضع فيه. عندما رحلت بكيت لوداعه، فزيارته صعبة وفراقه مرّ وحاله لا يَسرّ، الاحتلال يخنقه ويمنع الناس عنه ويُعاقب أهله علهم يرحلون ويتركونه.

الآن أنا أزور المسجد الأقصى في أيام الجمعة في رمضان كل عام مرة، ويُهيج ذلك في قلبي الحنين لذلك المسجد الذي أستشعر حزنه على فراق أحبائه، وعلى غربته واحتلاله، فزياراتنا له محدودة، وقدرتنا على خدمته وصيانته وتعميره مفقودة. لكننا لا نملك له إلا الدعاء، وصلوات فيه حُرِمَ منها غيرنا، وأملنا ورجاؤنا أن يعود إلى حاضرة الإسلام مُكرّمًا، وإننا إذ نعلم فضله وبركة قربه، وأجر شدّ الرحال إليه، وتعلق قلوبنا به. إذاً علينا أن نُعلّم صغارنا ذلك ونربيهم عليه، ونشجعهم على شد الرحال إليه مهما كان الأمر صعبًا، كيف لا ونحن نراه ريح الجنة على الأرض، وروضة الرحمة الإلهية المهداة إلى البشرية!

علينا أن نحمل حُب المسجد الأقصى المبارك إلى أبنائنا وأحفادنا، كي يحفظوه في قلوبهم ويتعهدوه برعايتهم ليكون لهم قِبلة الرحيل الأولى وهويتهم التي يعتزون بها، وقضيتهم التي يدافعون عنها ومحور اهتمامهم الذي يدورون حوله. فيا معشر الأمهات، علمن أولادكن أن القدس هي عاصمتنا، وأن المسجد الأقصى هو وجهتنا، وأن كل زاوية فيه هي ملك للمسلمين، وأن علينا أن نصله كلما أتيح الوصل، وأنه كان قِبلة المسلمين يوماً ما ولا زال قِبلة قلوبهم جميعاً، وأن شدّ الرحال إليه واجب على كل مستطيع، وأنه هويتنا وعقيدتنا وقضيتنا وأن علينا ألا نتخلى عنه بأي ثمن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.