شعار قسم مدونات

مهلاً يا صاحبي.. لا تمضِ وأنت لا تقرأ!

blogs قراءة

من الأمور الجيدة والتي ينبغي أن تكون في قياس نجاح الإنسان هو أن يكون دائما في محاسبة نفسه وما هو بصدده من أعمال، حتى يتسنى له معرفة مامدى تقدمه في عمله الذي هو بصدده، سواء في العمل، أو في القراءة، أو مع نفسه هو بالذات.. فالوقوف مع الذات والبحث عن مكامن النقص فيها لاستدراكه والانطلاق من جديد لهي من أفضل المؤشرات التي يقاس بها تقدم الشخص وتأخره، فالناجحون هم دائماً ما يخصصون وقتا للوقوف على مواضع النقص ومحاولة إصلاحها والوصول بها إلى ماهو أحسن وأجمل، والاجتهاد فيها دائما حتى تكون أعماله دائما متجددة ومسايرة للإمكانات الموجودة في كل فترة من الحياة التي يعيشها.

وعلى هذا كان لابد للوقوف ولو وقفة قليلة مع الذات ومحاورتها بعد مرور فترة زمنية لست باليسيرة من المسيرة في عالم القراءة بكل منعرجاته السعيدة والحزينة، للوقوف على أهمية القراءة ومغزاها في حياتنا، وكذلك ما هي النظرة التي كانت سائدة في تصورنا من قبل حول القراءة وكيف صارت الآن بعد أن مر زمن ليس باليسير هو كفيل بتغيير الأوطان والبلاد بله تغيير العباد؟ وهذا الوقوف كما يكون عند التاجر أو صاحب العمل كذلك ينبغي أن يكون لدا كل وحد منا أيا كان عمله وأيا كان هو بصدد إنجازه من أعمال.

في الحقيقة صعب أن يعطي الإنسان للقراءة مفهوما يكون هو بمثابة المرجع في تحديد معنى ومفهوم القراءة، لأنها قبل أن تكون شيئا يستحق منا البحث واعطائه مفهوما هي تجربة تَولد عنها شعور وإحساس، والتجربة تختلف من شخص لآخر كذلك القراءة هي تجربة، فكل إنسان له تجربته الخاصة معها تَولد عن هذه التجربة عنده إحساس وشعور من خلاله هو أعطى مفهوما للقراءة عنده، وكذلك بالنسبة لي فالقراءة تجربة ولدت عندي مفهوما ربما يخالف مفهوم هذا وذاك، فالقراءة هي شيئ تستطيع من خلاله أن ترى الأشياء من حولك بمنظور مختلف عما كانت عليه من قبل، وتستطيع من خلالها أيضا التعبير عن محسوسك وشعورك بشكل أرقى وأجمل، تكون فيه أنت من يقتنص الكلمات المناسبة لإبلاغ هذا الاحساس والشعور، إضافةالى أنها تجعل من الإنسان أن يرى كل ما من حوله جميلا، وإن لم يكن كذلك فمن خلال ما نمَّت فيك من قدرة احاسيسة وفكرية تجعل هذا الشيء جميلا انطلاقا من معاملتك معه على منوال ومنظور القراءة.

القراءة تجعلك تفهم خريطة هذه الحياة والسير فيها انطلاقا من رسالتك في هذه الحياة، وتستطيع أن نتقول أيضا أن الحياة قبل القراءة هي بمثابة صفحة بيضاء ليس فيها شيء

نعم هذا ما ينبغي أن يقال حول مفهوم القراءة، لذلك كلنا يتفق على أن القراءة تختلف من شكل لآخر وإن كانت كلها قراءة، وتختلف كذلك أيضا من شخص لآخر، فمفهوم القراءة عند الجاحظ مثلا مختلف تماما عن مفهومها عند عبد القاهر الجرجاني وابن حزم وغيرهم، ومفهوم قراءة هؤلاء مختلف عن  مفهوم قراءة أشهر من ألف في القراءة بكل جوانبها الأرجنتيني "ألبيرتو مانغويل" كل واحد منهم أعطى مفهوما للقراءة حسب نظرته وما توصل إليه من طول تجربته الخاصة التي خاضها في عالم القراءة، مما إنعكس انعكاسا جذريا على مفهوم القراءة وتصورها عبر السيرورة التاريخية للقراءة لكل الأفراد الذين حاولوا إعطاء مفهوم للقراءة.

ومما ينبغي الوقوف عليه في هذا الجانب أيضا بعد تصور مفهم القراءة عند كل واحد منا وتصوره، هو الهدف والمغزى من هذه القراءة التي نقرأها، هل لها هدف ورسالة في حياتنا؟ أم أنها مجرد شيء نتسلى به ونملأُ به فراغنا وندعي حقا أننا نقرأ! حقا من الأمور التي التي نتأسف عليها في حياتنا هي عدم اكتشافنا عالم القراءة ومغزاها ونحن صغارا، صحيح أننا كنا نقرأ ولكن لا ندري لماذا نقرأ، منذ الصغر ونحن نذهب إلى الكتاتيب القرآنية لا نعرف لماذا!، هل تلبية لرغبة آبائنا حتى يقال عنهم أن لديهم ولدا يقرأ القرآن وسيكون فيها وذا شأنٍ في المستقبل؟ أم أن المحيط الذي ازددنا فيه كان لا يساعد على ذلك لكوننا أولاد البادية وليس فيها أشياء تساعدنا ولو قليلا على إعطاء أهمية للقراءة في حياة الشخص عموما والهدف الأسمى منها خصوصا؟

ولكن عندما تقدمنا في العمر وحصل نمط جديد من التعليم في حياتنا، وذلك بانتقالنا من البادية إلى المدينة تغيرت معه نظرتنا للقراءة فصارت القراءة في نظرنا ذا هدف في الحياة، فهي وراءها رسالة ينبغي لكل شخص أن يؤديها، فالهدف من القراءة هو فهم هذه الرسالة الملقاة عليه في هذه الحياة، كي يستطيع بفهمها أداءها وتبليغها للآخرين على أحسن أداء، فانتقلت القراءة في مسيرة حياتنا من لا هدف إلى هدف في الحياة.

وهذا يذكرني بمحمود شاكر الذي عرفت نظرته للقراءة في حياته تحولا جذريا جعلت منه يحمل رسالة الدفاع والذود عن كل ما يطعن في تراثنا الأدبي، إذ المرحلة التي كان فيها في المدرسة الحكومية وما كان يسمعه من طعن في التراث وخصوصا ما أحدثه طه حسين من ضجة حول الشعر الجاهلي، ليست هي المرحلة التي كان يقرأ فيها عصاميا وما أعطته من نظرة مغايرة للتراث عموما والشعر خصوصا، وما كتابه المتنبي خير دليل على ذلك، وكذلك الغزالي فالغزالي برسالته المدافع والمربي في آخر حياته ليس هو الغزالي الفيلسوف في أول حياته، ومرورا بفريد الأنصاري أيضا الذي صارت رسالته في آخر حياته رسالة  قرآنيا ليس هو فريد الأنصاري الحركي في المرحلة الجامعية.

فعلى هذا كله ينبغي أن تكون القراءة بمثابة خريطة للحياة أنت تملكها، فكلما كان الإنسان لديه خريطة لدولة ما أو مدينة فهو يعرفها جيدا ويعرف دروبها مما يجعله وتمكنه من فهمها والمشي فيها بكل سهولة وانسيابية، والقراءة كذلك فهي تجعلك تفهم خريطة هذه الحياة والسير فيها انطلاقا من رسالتك في هذه الحياة، وتستطيع أن نتقول أيضا أن الحياة قبل القراءة هي بمثابة صفحة بيضاء ليس فيها شيء، ولكن بمجرد أن تقرأ وتصير قارئا تحاول أن تعطي شكلا جميلا لهذه الصفحة وإخراجها على شكل فسيفساء جميلة، فأنت حينما تقرأ بكل أشكال وأنواع القراءة عبر الصيرورة التاريخية للقراءة، فأنت تأخذ فسيفساء من هنا وهناك وتستطيع من خلال ما جمعت أن تشكيل لوحة جميلة لصفحة هذه الحياة، فلا تنس وأنت تكتب أن تجعل من كتابتك رسالة في الحياة، ولا تنس أيضا وأنت تتكلم أن تجعل من كلامك يؤطره هذا الهدف الأسمى كي يكون كلامك ممتدا عبر الزمان لكونه يحمل في طياته رسالة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.