شعار قسم مدونات

لماذا لا زال الغربيون يتزوجون؟

blogs زواج

كنت أشاهد برنامج من برامج تلفزيون الواقع في كندا حيث يقوم طاقم البرنامج بإعداد لقاء تعارف عاطفي بين غريبين، blind date. فجيء برجل وامرأة فجلسا على طاولة العشاء وبدءا بالحوار للتعرف على بعضهما البعض. كان الحوار سلسا على العموم الا في لحظتين: عندما أخبرها أنه يبحث عن إنشاء علاقة مفتوحة، open relationship، علاقة يسمح لكل طرف فيها أن تكون له علاقات جنسية برضى الطرف الآخر وبدون أن يعلم بعددها أو تفاصيلها، وعندما أخبارها أن لديه أطفالا.

   

ما هي النقطة التي أخافت المرأة وجعلتها تتردد في الارتباط بالرجل؟ إن كنت تظن أنها العلاقة المفتوحة فإنك لازلت تحكم على الأمور أخلاقيا ومن منظور تراحمي إنساني. ما أثارها حقا هو أن للرجل أبناء، بمعنى مسؤولية تقف بين الإنسان والمتعة وتحد من حريته في الحياة وفي التمتع بـ "الفردوس الأرضي" حسب تعبير المسيري رحمه الله. وكان تبريرها أن العلاقة المفتوحة تحررها من الشعور بضرورة الارتباط وتعطيها حرية العودة إلى شريكها كل يوم طواعية. مثال كهذا يعطينا نظرة، ولو سريعة، عن سيولة العلاقات الإنسانية في الغرب وتغلغل مفهوم التمركز حول الذات وسطوة العلاقات التعاقدية.

  

لأن الفردية جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان الغربي، فكثير هم من يتهربون من الزواج بحكم أنه يدخلهم في قفص يضيق مساحة تحركهم ويحد من حريتهم الشخصية

مع ارتفاع معدلات العلمنة والفردية وإشباع اللذة، أصبح الإنسان الغربي إنسانا استهلاكيا ماديا بإمتياز وتقلصت دائرة التراحم في حياته حتى أنها قد تكون انعدمت. فهو يبدأ حياته بأن ينفصل عن أبويه في سن مبكّر جدا يذهب فيه للحضانة ويكبر بعيدا عنهم بالكاد يقضي معهم ساعات معدودات في اليوم. وأعرف حالات كثيرة يرفض فيها الأطفال مفارقة مربياتهم آخر اليوم للذهاب إلى البيت مع آبائهم. فالمربية تصبح بالنسبة للطفل أمه الحقيقية.

 

وحينما يدخل الطفل المدرسة، فغالبا ما تستبذل الحضانة بفترات ما قبل وما بعد المدرسة يذهب فيها الطفل للمدرسة قبل الدوام ويظل هناك إلى ساعة متأخرة من المساء. وفي المحصلة فإن الطفل يعيش منذ ولادته إلى أن يبلغ الرشد في عزلة نفسية عن أبويه. وعندما يصل سن المراهقة يقذف به إلى الشارع ليواجه الحياة وحيدا.

  

أمور كهذه تحرم الإنسان حتى من نعمة الحنان والتربية التي يتلقاها الحيوان. فالحيوانات عادة تقضي وقتا طويلا نسبيا مع أولادها ولا تتركهم إلا وقد تعلموا كل أساسيات العيش ومواجهة الحياة. لكن تجربة الإنسان الغربي الأولى تترك فراغا عاطفيا كبيرا في حياته وتجعل درجة اعتماده على الغير وثقته بهم ضعيفة جدا. ويلعب نقص أو انعدام العاطفة والروابط الأسرية دورا مهما في تشكيل شخصية متمركزة حول ذاتها وتعاقدية بامتياز. لذلك عندما يكبر هذا الطفل أو الشاب ويجد شخصا ما يمكن أن تربطه به علاقة عاطفية فإن العلاقة تكون تعاقدية محضة مبناها التشارك في مصاريف الحياة من بيت وسيارة إلى ما لذلك ويأخذ الجانب الإنساني فيها حيزا محدودا جدا.

 

ولأن الفردية جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان الغربي، فكثير هم من يتهربون من الزواج بحكم أنه يدخلهم في قفص يضيق مساحة تحركهم ويحد من حريتهم الشخصية. ويفضّل الكثيرون أن تبقى علاقتهم العاطفية غير مربوطة بحبل الزواج حتى يمكنهم التحلل منها بسهولة ويسر. وفي الحقيقة فالزواج في المنظومة العلمانية المادية ليس له معنى وهو فعل غير منطقي تماماً. فإن كان بإمكان الإنسان أن يحصل على متعته الجنسية بسهولة وكان يستطيع الإنجاب وحفظ حقوقه وحقوق أولاده المادية دون زواج، فما الذي سيدفعه إلى الزواج اصلا؟

 

أعرف الكثيرين في الثلاثينيات والأربعينيات من أعمارهم غير متزوجين ولا يفكرون بالزواج ولا تربطهم علاقة عاطفية خارج إطار الزواج أصلا. وأتذكر عندما قالت لي زميلة لي في منتصف الثلاثينيات من العمر أن الزواج سيمنعها من التمتع بحياتها ويكبح حريتها في السفر والخروج والسهر بحرية. ومن المفارقات، أن هذه الزميلة غيرت عشيقها مباشرة بعدما غيرت عملها بعمل أحسن وسيارتها بسيارة أغلى. فالعشير في مجتمع مادي علماني هو شيء أو وسيلة لتلبية الرغبة وإشباعها فقط يمكن رميها كما يرمى أي شيء استعمل فأُتلف. وهذا شيء يصعب فعله مع الزوج أو الزوجة.

 

وساعد انتشار أساليب بديلة مريحة وسريعة لإشباع اللذة الجنسية كأصدقاء المنفعة، friends with benefits، والجنس لليلة واحدة، one night stand، والدمى الجنسية الذكية، sex robots، على قتل الجانب العاطفي في العلاقة الجنسية وتحويلها من فعل إنساني مركب ومقدس إلى عمل أوتوماتيكي مادي لحظي. ومن طرائف ما قرأت انه سيفتح أول بيت للدعارة مع الدمى الجنسية في كندا. والغريب أن أسعار الخدمة ليست رخيصة، بل هي تفوق ما يمكن أن يصرفه الزبون مع أي بائعة هوى.

 

الإنسان الغربي قد انسحب كلية من المسيحية واليهودية ومن أي تأثير لهما وتبنى منهج حياة جديد يدور حول المادة وإشباع اللذة والتمركز حول الذات

ومن المضحكات المبكيات أن هناك عروض لمن أراد فض بكرة دمية بآلاف الدولارات. أمر كهذا يتجاوز حب الاستطلاع وتجريب الجديد إلى أزمة الفردية والغربة التي يعيشها الإنسان الغربي والتي أثرت حتى على قدرته التواصلية مع الناس والعيش معهم. فاللجوء إلى هذه الأساليب السريعة والبديلة لإشباع اللذة الجنسية مرده، في نظري، لفقدان الإنسان الغربي القدرة على التعايش مع الآخر وضمور المهارات الاجتماعية عنده وازدياد الشعور بالغربة والفردانية.

 

ومن الأمور المهمة في فهم عزوف الغربيين عن الزواج مفهوم الجماعات "communities"  والذي أصبح يشكل لُب العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع الغربي. فالمجتمع الغربي، بفعل العلمنة، لم يعد كتلة متجانسة إنما أصبح عبارة عن جماعات متفرقة. وتعتبر المرأة واحدة من أهم هذه الجماعات. وقد انفصلت المرأة عن المجتمع ككل وكونت حياة خاصة بها ومستقلة عن الرجل وأصبح مجتمع المرأة مواز ومنافس لمجتمع الرجل. ومن هنا كثرة الحديث عن المساوات بين الجنسين لا باعتبارهما مخلوق لخالق أعطى لكل طبيعته وحريته بل باعتبارهما مجتمعين متوازيين ومتساويين في البيولوجيا والخصائص المادية. ولأن الجماعات بطبيعتها تكون متجانسة نسبيا من ناحية القيم والعادات فإن "جماعة المرأة" أصبحت منفصلة تماما عن جماعة الرجل بل تحاول جاهدة الاستقلال عنها كليتا.

 

ومن تمام استقلال الاكتفاء داخليا ذاتياً حتى جنسيا. وهذا في نظري هو سبب انتشار الشذوذ الجنسي في الغرب. فباعتبار المرأة والرجل جماعتين منفصلتين، فإن الزواج بينهما يصبح زواج مختلطا كزواج شخصين من ديانتين مختلفتين أو عرقين مختلفين. أي أنه يصبح الاستثناء لا الأصل. ويصبح السلوك الطبيعي في ظل هذه المجتمعات المكتفية ذاتيا هو اللواط بالنسبة للرجل والسحاق بالنسبة للمرأة. وما عاداه يصبح شذوذا وخروجا عن القاعدة. بل يصبح ارتباط الرجل بالمرأة خطر؛ ليس فقط لأنه قد ينتج عنه أطفال بل لأنه ينذر بتفسخ العقد والانسجام داخل كل جماعة على حدة وإذابة الفوارق والحدود بينهما.

  

فلماذا لا يزال الناس في الغرب يتزوجون؟

لا أظن أن الدين يساعد على الإجابة على هذا السؤال. فالإنسان الغربي قد انسحب كلية من المسيحية واليهودية ومن أي تأثير لهما وتبنى منهج حياة جديد يدور حول المادة وإشباع اللذة والتمركز حول الذات. ولذلك فمن وجهة نظر علمانية شاملة، فإن الزواج يشكل عقبة في التمتع بالحياة والوصول إلى تحقيق أي أهداف مادية أو مهنية.

 

والتقاليد أيضا تفشل في الإجابة عن السؤال. فالإنسان الغربي قد تحلل من جميع التقاليد المسيحية التي تشجع على الزواج ولا ترى الجنس إلا داخل إطاره. فتقاليده اليوم كلها تدور حول المتعة والتحلل من كل عبأ أخلاقي أو مادي وتشجع على الفردانية والأنانية لا على الزواج.

 

وحتى الجانب الاقتصادي لا يستطيع تقديم إجابة مقنعة. بل بالعكس، فالمرأة الغربية اليوم مستقلة تماما عن الرجل ولم تعد تحتاج للزوج ليعيلها أو أن تحمل إسمه لتستطيع تملك منزل أو لفتح حساب بنكي. وحتى الأصول المالية والعقارية اليوم وكذلك حقوق الأبناء تكون محفوظة بين الشريكين وموثقة بغض النظر عن وجود الزواج من عدمه.

  

إذا لماذا لا يزال الغربيون يتزوجون؟

قد تكون الإجابة صعبة بحكم أن الزواج هو فعل غير عقلاني بالمفهوم المادي. لكن لعل استمرار حالات الزواج في الغرب، وهي بالمناسبة في تناقص مضطرد، تكون استمرار لحلم "الفردوس الأرضي" في الغرب الذي يشمل عمل جيد وبيت وزوجة. ولعله تعبير عن بحث الإنسان الغربي عن حنان وسكينة تخرجه، ولو ظرفيا، من غابة المجتمع التعاقدي الصارمة ومن وحشة الاستغراب. ولعله حالة من الثورة على المجتمع المادي الذي يستعبده ويحد من حريته ويشكل له اختيارات حياته كلها. أو لعله القبس الإلاهي الذي يدفع الإنسان فطريا إلى أمر يذكره بأصله وبرائته التي فقدها ويذكره بضعفه الإنساني ويفيقه من اكذوبة الرجل الخارق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.