شعار قسم مدونات

كيف نظر علي عزت بيجوفيتش إلى قضية أصل الإنسان؟

علي عزت بيجوفيتش

تعد قضية أصل الإنسان، هي حجر الزاوية لكل أفكار المجاهد علي عزت بيجوفيتش، فأي مناقشة تدور حول كيف ينبغي أن يحيا الإنسان، ترجع بنا إلى الوراء إلى حيث مسألة ((أصل الإنسان))؛ وفي ذلك تختلف الإجابات التي يقدمها كل من الدين والعلم كما هو الشأن في العديد من القضايا، حيث يشير الكاتب، أن العلم ينظر إلى الإنسان كنتيجة لعملية طويلة من التطور ابتداء من أدنى أشكال الحياة، حيث لا يوجد تميز واضح بين الإنسان والحيوان. وتتحدد النظرة العلمية إلى الكائن البشري باعتباره إنسانًا ببعض الحقائق المادية الخارجية: المشي قائمًا، صناعة الأدوات، التواصل بواسطة لغة منطوقة مفصلة؛ الإنسان هنا ابن الطبيعة ويبقى دائما جزءًا منها على الجانب الآخر، يشير علي عزت على أن الدين والفن، رغم حديثهم عن خلق الإنسان، والخلق ليس عملية وإنما فعل إلهي..، ليس شيئًا مستمرًا وإنما فعل مفاجئ.. فعل أليم مفجع. وسواء كان الإنسان نتاج التطور أو كان مخلوقًا، فإن السؤال يظل قائمًا: ما هو الإنسان؟ وهل الإنسان جزء من العالم أو شيء مختلف عنه؟ وفي هذا الإطار يجيب الماديون، بأن الإنسان هو الحيوان الكامل (l’homme Machine)، وأن الفرق بين الإنسان والحيوان إنما هو فرق في الدرجة وليس في النوع، فليس هناك جوهر إنساني متميز.

وهكذا، فإنه فيما يتعلق بالسؤال عن أصل الإنسان، يذهب بيجوفيتش إلى القول بأن العلم والفن يقفان على طريق تصادم قطعي، فالعلم يحصي الحقائق التي تؤدي بطريقة عنيدة إلى الاستنتاج بأن الإنسان قد تطور تدريجيًا من حيوان إلى إنسان. أما الفن، فإنه يرينا الإنسان في صورة مثيرة قادمًا من عالم مجهول. العلم يشير إلى ((داروين)) وتركيبته الجهنمية، أما الفن فيشير إلى ((مايكل أنجلو)) وشخوصه الرائعة على سقف كنيسة سيكستين. وينتقل الكاتب إلى الحديث عن المثالية الأصلية، طبقا لنظرية التطور الداروينية، بقوله: "كان الأب الأعلى لأكثر أنـواع البشر بدائية هو نوع من أكثر أنـواع الحيوان تقدمًا. ولكننا إذا ذهبنا نقارن بين الإنسان البدائي وبين أكثر أنواع الحيوان تقدمًا، لوجـدنا أن هناك فــرقًا جوهريًا ملازمًا. انظر مثلاً إلى قطيع من الحيوانات وهـي تبحـث عن الطعـام وتتصارع من أجـل البقاء، ثم انظـر إلى إنسـان بدائـي خـائف مشـوش بمعتقداته ومحرماته الغريبة، أو غارقٍ في أسراره ورموزه الغامضة. هـذا الفـرق بين المجموعتين لا يمكن رده إلى مجرد اختلاف في مراحل التطور فحسب".

لا نستطيع تفسير الحياة بالوسائل العلمية فقط، لأن الحياة معجزة وظاهرة معًا، والإعجاب والدهشة هما أعظم شكل من أشكال فهمنا للحياة

ويفسر الكاتب هذه النظرية بقوله:"إننا نقول إن الإنسان قد تطور، وهذا صحيح، ولكنه يصدق فقط بالنسبة لتاريخه البشري الخارجي. الإنسان كذلك مخلوق، وقد انصبَّ في وعيه ليس فقط أنه مختلف عن الحيوان، ولكن أيضًا أن معنى حياته لا يتحقق إلا بإنكار الحيوان الذي بداخله. فإذا كان الإنسان هو ابن الطبيعة كما يقولون، فكيف تسنى له أن يبدأ في معارضة الطبيعة؟ وإذا تخيلنا تطور ذكاء الإنسان إلى أعلى درجة، فإننا سنجد أن حاجاته ستزداد من ناحيتي الكم والنوع، ولن يتلاشى شيء منها، فقط ستكون طريقة إشباع هذه الحاجات أكثر ذكاء وأفضل تنظيمًا. أما فكرة أن يضحي الإنسان بنفسه في سبيل الآخرين، أو أن يرفض بعض رغباته، أو أن يقلل من حدة ملذاته الجسدية، فكل هذا لا يأتي من ناحية عقله . إن مبدأ وجود الحيوان هو المنفعة والكفاءة، وليس هذا هو الحال بالنسبة للإنسان، على الأقل فيما يتعلق بخاصيته الإنسانية المتميزة. وغرائز الحيوان أفضل مثل على مبدأ الكفاءة والمنفعة. فالحيوان لديه شعور دقيق بالوقت أفضل من شعور الإنسان.

هناك أمثلة كثيرة على ذلك، منها طيور الزرزور التي تتوقف عن تناول الطعام قبل الغروب بساعة. وينظم النحل عمله اليومي بدرجة من الدقة مدهشة، فمعظم الزهور تبث رحيقها بضع ساعات يوميًا في مواعيد معينة دقيقة يذهب فيها النحل لامتصاص الرحيق، فهو يتخير الوقت المناسب كما يتخير أفضل المواقع، ولتحديد الاتجاه يستخدم علامات مختلفة على الأرض، كما يقدر موضع الشمس في السماء. وعندما تتلبد السماء بالغيوم يكيف النحل نفسه باستقطاب ضوء الشمس من خلال السحب.. وهكذا هذه القدرات هي قدرات من هذا العالم. إنها تدعم الكائنات الحية وتجعلها قادرة على البقاء".

على عكس ذلك يشير علي عزت، على أن المبادئ الأخلاقية في كل من المجتمع المتحضر والمجتمع البدائي، تضعف كفاءة الإنسان. فإذا كان لدينا نوعان من أنواع الكائنات على درجة واحدة من الذكاء، فإن النوع الذي لديه مبادئ أخلاقية سرعان ما ينقرض. ويعوض الإنسان عن قصوره في القوة ـ الناتج عن التزامه الخلقي ـ تفوقه في الذكاء إلى جانب قدرات أخرى مماثلة، ثم يستحضر المؤلف قضية ازدواجية العالم الحي، بالتساؤل: هل نحن قادرون الآن وفي المستقبل على إنتاج الحياة؟ الجواب: نعم، إذا استطعنا أن نفهم الحياة، فهل نستطيع؟ إن علم «البيولوجيا» ليس علمًا عن جوهر الحياة، إنما هو علم يتعلق بظواهر الحياة، بالحياة كموضوع، كمُنتج. ويأتي ليستعرض أهم إنجازات علماء البيولوجيا في تفسير الحياة الجوانية، سواء للإنسان أو الحيوان، فيقول: "إن الحياة معجزة أكثر منها ظاهرة.

انظر على سبيل المثال إلى عين الإنسان مستقرة في تجويف ممتلئ بالدهون، محمية بجفن من أعلى وجفن من أسفل، وبها رموش وحواجب، وغشاء مخاطي، وملتحمة مكسوة بغشاء مخاطي. إن حركة العين في كل اتجاه ممكنة بواسطة عضلات متحركة، اثنان منها مستقيمان واثنان منحرفان، ويُسهِّل الحركة جهاز دمعيّ يتكون من غدة دمعية وكيس دمعي وقناة دَمْعية، وهذه تحفظ العين رطبة وتحميها من التلوث. وتتألف مُقلة العين من ثلاث طبقات: الأولى طبقة مكتنزة غير شفافة وهي تتحول إلى قرنية شفافة في مقدمة مُقلة العين، والثانية شبكة من الأوعية الدموية تلي بياض العين، يتدفق فيها الدم لتغذية العين، ولكي تؤدي العين وظيفتها توجد طبقة أهم جزء في العين، إنها الشبكية حيث توجد الخلايا البصرية ـ على شكل عُصيَّات ومخروطيات ـ موصولة بخلايا ثنائية القطب وألياف يشكل مجموعها العصب البصري، وتمتلئ مقلة العين من الداخل بسائل مائي مرن شفاف.

أما العدسة البلورية، فملتصقة بقزحية العين ومتصلة بجسم هدبي في الجزء الأمامي. وعندما تمر أشعة الضوء خلال القرنية تعدل مسارها لتيسير البأْوَرة في خلفية العين، حيث تتكون هنالك صورة مقلوبة تنتقل إلى المركز البصري في المخ. وتستقبل كل عين الصورة من زاوية مختلفة. ويستقبل العصب البصري النبضات العصبية من كلا العينين فيحملها إلى وصلات الدماغ الأوسط على جانبي المخ، ثم ترحل على ألياف تمتد إلى الفص القفوي حيث تُرى النبضات. والدموع ذات أهمية كبرى في تأدية العين لوظيفتها، تفرزها الغدة الدمعية لتحافظ على القرنية مبللة. ومن بين العناصر التي تتألف منها الدموع مادة تسمى "ليسوزيم" Lysozyme، وهي مادة مضادة للبكتيريا تحمي العين من الملوثات ويتحكم في تدفق الدموع العصب السابع في القحف وهو العصب الوجهي. والدموع، كمبيد للبكتيريا، أكثر فاعلية من أي مُنتج كيميائي. وهي مادة قادرة على تدمير مائة نوع مختلف من البكتيريا. وتبقى هذه القدرة حتى بعد تخفيفها ستمائة مرة".

إننا لا نستطيع تفسير الحياة بالوسائل العلمية فقط، لأن الحياة معجزة وظاهرة معًا، والإعجاب والدهشة هما أعظم شكل من أشكال فهمنا للحياة، ليستطرد علي عزت كلامه عن معنى الفلسفة الإنسانية بالقول: "إن السمو الإنساني لم يكن من المستطاع اكتشافه بواسطة علم الأحياء أو علم النفس، ولا بأي علم آخر، فالسمو الإنساني مسألة روحية. فمن السهل على العلم، بعد «الملاحظات الموضوعية»، أن يقرر أن اللامساواة بين الناس ـ ومن ثم العنصرية العلمية ـ ممكنة جدًا بل منطقية".

وسعى المؤلف بعد ذلك، إلى توضيح هذا السمو الإنساني بالإقرار على أن أي تلاعب بالناس حتى ولو كان في مصلحتهم هو أمر لا إنساني، أن تفكر بالنيابة عنهم وأن تحررهم من مسئولياتهم والتزاماتهم هو أيضًا لا إنساني. إن نسبة الإنسانية إلينا تجعلنا ملتزمين. فعندما وهـب الله الحرية للإنـسان وأنذره بالـعقاب الشـديد، أكد ـ على أعلى مستوى ـ قيمة الإنسان كإنسان. إن علينا أن نتبع المثل الأعلى الذي وضعه الله لنا: لندع الإنسان يجاهد بنفسه بدلاً من أن نقوم بعمله نيابة عنه. ليصل بيجوفيتش إلى حقيقة جوانية مفادها:"بدون الدين وبدون فكرة الجهاد الروحي المتصل للإنسان كما تقرر في «الحدث التمهيدي بالجنة»، لا يوجد إيمان حقيقي بالإنسان باعتباره قيمة عليا. بدون ذلك ينتفي الإيمان بإمكانية إنسانية الإنسان، أو بأنه موجود على الحقيقة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.