شعار قسم مدونات

التضحية من أجل الوطن.. ولكن.. ما هو الوطن أصلا؟

blogs - the top

في حضرةِ المحبوب يطيب اللقاء، ويُصان الحديث ويكثرُ السجع ولكن كما قال تميمُ مرةً "وما كلُّ نفسٍ حينَ تَلْقَى حَبِيبَها تُسَرُّ ولا كُلُّ الغِيابِ يُضِيرُها". لعلنا هكذا أصبحنا يا وطن، نخشى اللقاء ونشتهي الغربة ونتمنى البين ونتجنب الوصل، نحن بتنا يا وطن عُشاق يقتلهم الألم لا الأمل، بتنا في حضرتك ضعفاء جداً ينهشنا الحزن، نحن بتنا عشاق مخذولين، وما أشد علينا من ألم البين إلا ألم الخذلان.

كل يوم آلاف القصص وآلاف الحكايات التي يحكم عليها أن تنال ذات النهاية، ختمٌ على جواز السفر، فها هو علمٌ آخر من أعلام الوطن يتركه ويرحل، مع أنه لم يبع القضية ولم يترك السلاح من جبنٍ أو ضعف، ولكنه بات يعي أنه سلّ سيفه في وجه عدو يجهله.. بات يعي أن عمره الذي مر هُدر في الكذب والخداع هُدر وهو يحقن بأمل مزيف، أمل نحن نحقن به معه كل يوم. في حزننا هذا ونحن نفارق رجلاً من رجالات الوطن القلائل الدكتور فايز ضمرة مُودّعنا بجملة أحرقت أفئدتنا وبخرت ما تبقى من الأمل فينا "وطن لا يحترم عقول مخترعيه صعب العيش فيه" نقرأها ليستنهض فينا الغضب ويفرد الحزن على أرواحنا جناحه.

ليس سهلاً عليه فراق الوطن كما ليس سهلاً على أي منّا، فنحن الذين جٌبلنا على رائحة خبز الصاج وقَدّسنا قهوة الأمهات، نحن الذين تشربنا اللبن الكركي عِشقاً، الذين لم نعرف من جرش سوى ألبانها ومع ذلك أحببناها. نحن الذين ما إن زرنا عروس الشمال حتى سُحرنا ببساطتها، نحن من جعلنا الشماغ رمز المحب ورمز العشاق، فمن أنت أيها الوطن هل أنت حبيب خَذل المُحب أم حبيبٌ نحن خذلناه.

نحن في هذا الوقت أيها الوطن في أشد أوقاتنا حاجة لك، في أشد لحظاتنا التي نريد فيها صدق القول والفعل

يا وطني أنت الحبيب الذي رمى الفساد بيديه عليك لعنة الفراق عن المحبين، فشِبت مبكراً رغم صِغر سنك. هذا الفساد الذي اغتصب منك كل الخيرات، أصبح عدوك الحقيقي، طال كل مؤسساتك طال حتى بيوت البسطاء منّا. أصبح يأكل لحم الفقير ليُغذي مغتصبيه، فأعادنا لزمن الإقطاع حيث تحرث الأرض على البشر وتقاس القوة بالجباية، فيقتل في حضرته الحديث الجميل ويضرب بسوط كل من يقف في وجهه.

أما نحن يا وطني فإننا الذين نخاف عليك أن تلين وتضعف فتصبح يديك تطبطب على كتف الذين يفسدونك، الذين جعلونا عملائهم في طريقة ما، جعلوا وجوه الفساد تقنص من حياتنا الفرص وتشبع بالكوابيس أحلامنا، فأصبحنا نُلزّم إما أن نكون جزء منه باللجوء للواسطة والمحسوبية بعد زوال حكم الكفاءة عن فرص العمل، أو نلجأ لأن نُقدم تنازلات مادية ومعنوية لنُسّير أعمالنا وحقوقنا دون إزعاج راحة الفاسدين عن كراسيهم.

نحن في هذا الوقت أيها الوطن في أشد أوقاتنا حاجة لك، في أشد لحظاتنا التي نريد فيها صدق القول والفعل، نحن بحاجة لك لكي تخبر الراحلين بأن لا يرحلوا، وتخبرهم أنك استفقت وأن يداً من حديد سوف تضرب كل الخائنين، وأن الشاشات ستملأها أخبارٌ سعيدة. يا وطني نحن بحاجة لأمل حقيقي، نحن بحاجة لكل مُحب وكل كفاءة وكل صادق. يا وطني إن أصواتنا قد بحّت من شِدة الصُراخ والنداء عليك لطلب النجدة فأسعِفنا بها قبل فوات الأوان.

بعد رحيلنا أيها الوطن كلانا سوف يتألم وكلانا سوف يشتاق، ستملأ الغصة أرواحنا لأننا تركناك وحيداً وسيملأ الندم قلبك النابض بروح شعبك لأنك تركتنا نرحل، فمن أنت أيها الوطن؟ هل أنت لُغز نَعجز عن حله، أم مريض نَعجز عن مُداواته؟! من أنت أيها الوطن الذي رغم كل الظروف لازلت صامداً، من أنت حتى نحبك بذلك القدر الذي يجعلنا نَعِدُك بالوصل حتى في البعد، نَعِدُك بأن لا ننساك رغم كل الخيبات نَعِدُك أنك لو رغبت بنا مجدداً ستجدنا جنودك البواسل وأبنائك الأبرار. إنّا يا وطني نعرف من نحن ولكن لا ندري من أنت فأخبرنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.