شعار قسم مدونات

أنا أمك يا بني.. فلا تقارنّي بغيري!

blogs - sad woman

أي بُنيّ، أكتب إليك هذه الرسالة وأنت تَغط في نومك العميق، في فراشك الدافئ بعد يوم منهك طويل. أجلس بجوارك وأنظر في وجهك الحالم النقي، كم أنت جميل في كل أحوالك، نائماً كنت أم مستيقظاً. منهمكة في كتابة رسالة إليك، مفادها أن تسامحني على ما بدر منى وما سيبدر، على كل الماضي والحاضر وحتى المستقبل الذي لا أملك له الآن قوة.

سامحني إن لم نلعب سوياً كعادتنا، إن لم أقرأ معك قصة ممتعة قبل النوم. سامحني في انفعالاتي وجنوني وشرودي، في انهياراتي الصغيرة، ومللي الذي لا ينتهي، في كآبتي واكتئابي، في سأمي وسقمي، في انشغالي واندماجي. سامحني على تلك الليالي التي لم أنظر فيها إلى وجهك وأردتك فقط أن تنام، التي لم ألمس فيها كفك الصغير، التي شردت فيها بعيداً في أعماق عالمي البائس، إن أعددت لك قائمة بالمسامحة لن تنتهي، ولكن سامحني على أية حال.

أشعر في كل ليلة أنى لم أؤد أمانتي التي ملكني الله إياها على أكمل وجه، ثمة شيء ناقص دوماً، لا أعلم ما هو، ولكنى أتكشفه عندما أنظر إليك نائماً. تسطع حينها الحقيقة المُرّة، ويهبط على عقلي عشرات الأسئلة، (ألم أكفيه اليوم؟) ترد ذاتي البائسة على عقلي: لا لم تكفيه بالطبع، شردتِ وانفعلتِ ومللتِ، لم تُعلميه شيئاً جديداً، ولم تحضنيه وقتاً كافياً، لم تداعبي وجنتيه، ولم تمسحي على شعره.. لم ولم، ألف لم، ثم تخور قواي، وتنهار عيناي حتى أغط في نوم عميق.

بنى لا تقارن أمومتي بأمومة غيري، فكل أم هي مزيج خاص مميز لا يشبه غيره وإن تشابه

أوعد نفسي مراراً ألا أمل ولكن هيهات، يتمكن الملل مني والضجر، أعد نفسي ألف وعد على ألا أعود لتلك الممارسات التي تُحزنك أو تسبب لك الضيق. أحاول أن أتذكر ما قالته نفسي لي بالأمس، أُلجمها وأُبرحها ضرباً، حتى تتساقط الزلات بعيداً. أنجح أحياناً وأفشل أحياناً أخرى، في تلك الأحيان – التي أفشل فيها – لا أمتثل إلى قيمي وإيمان، تُشكل نفسي عبئاً على نفسي، يحوم فوقي شبح اليأس. يكسر بكاؤك قلبي يا بني، عندما أنهال عليك بالأف، والزمجرات، والاختلافات لكي تتركني ولو بالقليل.

قليلة الحيلة أنا، لا يسعني إلا أن أنأى بنفسي التي تدمى بدون سبب، غير أنها ظلمت نفسها، وأي ظلم أكبر من نظرة عتابك، أو جملة "لا أحبك" عندما تريد أن تقتص منى، في الحقيقة هذا قصاص عادل، فنفسي التي لا تريد أن تُرَوض، ويغترها غرورها، ربما يروضها قصاصك، فافعل ما شئت، إني راضية. يقولون أن الشعور بالذنب جُزءً متأصلاً في الأمومة يُلازمها ويعيد تشكيلها من جديد. لم أصادف يوماً أُمّاً لم تشعر بالذنب تجاه طفلها في أي من أركان حياتهما معاً، لذا لا تتعجب حديثي. أكتب لك عن شعور الأمهات كافة، كأنه موجود في الجينات، بداخل أعماق خلايا أجسادهن، أن تعيش الذنب، وبشكل أكثر قساوة على نفسك، معنى أن تبقي أماً.

وأن تبقي أماً معناه ألا تضعف ولا تنهار، أن تكون ذاك الإنسان الحديدي الذي يُحركه قوى خارجية، هذا ما يفرضه المجتمع والسياق العام عن الأمومة المثالية. ولكن هناك سياق آخر، يسرد تجربة الأم كمزيج خاص بها وحدها، تنعطف عنده المنعطفات، وينتج عنه علاقة خاصة جداً بين الأم وابنها، تتسلل تلك المشاعر التي أحكى عنها أحياناً كجزء من انسانيتنا، من توحدنا مع العالم، وهي مشاعر طبيعية، مناسبة لحياتنا، ولكنى أردت فقط أن أعتذر. سيحكي لك الناس عن قُبح العالم، وكيف أن منهم من يقبح نفسه، ويتجاوز قبحه أحياناً حد التحمل.

لعلنا نحتاج إلى فهم ذواتنا أكثر، والتعمق في معانيها، وسراديبها، لكي نتكشف ذنب أن نفعل هذا بغيرنا، وما بال من فعلوا بنا هكذا أن ينسخوا نفس القصة مراراً وتكراراً، تبدأ بما اقترفت أيديهم في أنفسنا ولا تنتهي. أنت كل أملي وآلامي، كل طموحي وأحلامي، كل جنوني واشتياقي وزهدي وخشيتي. أي يا بنى لا تقارن أمومتي بأمومة غيري، فكل أم هي مزيج خاص مميز لا يشبه غيره وإن تشابه، هي رحلة مختلفة لكل منا، ها قد وصفت جزءً بسيطاً من رحلتي ومشاعري، فتقبلها، وأحسن إلىّ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.