شعار قسم مدونات

كيف نخرج من عقدة انتظار الفرص إلى صناعتها؟!

blogs تأمل

كثيراً ما سمعت في صغري النصيحة التي تقول: "في العمر فرصة واحدة؛ عليك انتهازها وإلا بَكَيْتَ عليها طويلاً" سمعتُ هذا الكلام بكثرة من الجيل السابق -المفترض أنهم ناصحون لنا- وقليلاً ما سمعته من أقراني أو رأيتهم يمتثلونه، ثم خرجت من ذلك الضِيق إلى وُسْعٍ متمثلاً بالقول الآتي: "الحياة فرص، والفرص نادرة ولا تتكرر، ومن المهم استثمارها"، فالحمد لله أن الفرصة الوحيدة أصبحت فرص متعددة وسوف تتكرر بإذن الله تعالى، ولكن في ظل هذا الفهم سيقع الشخص فريسة لوحشين إثنين هما القلق والندم، أما القلق فمن الانتظار والخوف من تفويت فرصة العمر المرتقبة والتي يخشى أن يُضَيّعها من دون أن يدري أنها كانت فرصة عمره الثمينة التي لن تعود، وأما الندم فعلى تلك الفرصة الوحيدة التي ضاعت في الماضي ويخشى احتمالية أن لا تتكرر، حينها سيظل يبكي عليها ويُرجع كل فشل في حياته إلى تضْييعه تلك الفرصة والتي ستكون مُلَخْصاً عن حياته يَسْرده في كل مناسبة. في ضوء ما سبق سيظل الإنسان كما قلنا رهيناً لأمرين "القلق من المستقبل" أو "الندم على الماضي"، بينما نَسِيَ ما بينهما من زمن ثمين ألا وهو "الحاضر" الذي فيه يتم تصحيح انحرافات الماضي، وإعادة توجيه البوصلة نحو المستقبل. فهل من الصواب أن ينْحَصِرَ مفهومنا عن الفرص في تلك المساحة الضَيّفة؟ وكيف لنا أن ننظر لفرص الحياة بعيون جديدة؟

فرص في وقتها وفرص لها ما بعدها

عندما نقول: "فرص الحياة" فهذه كلمة كبيرة ولا تكاد تحاط، ونحن بصدد تحديدها في هذا المقال، فمنها فرص لحظيّة تكون في وقتها وتنتهي، مثل فرصة شراء سيارة بسعر مغري أو قطعة أرض وما شابه ذلك، وهذا مستثنى من حديثنا، وهنالك فرص مثل السلسلة متّصلة ببعضها أو قل مثل السلّم ترتقي فيه على درجات، كل درجة توصلك للّتي فوقها، مثل التعليم الثانوي والجامعي يؤهلك للدراسات العليا والأخيرة تؤهلك لشغل وظيفة في شركة ما متخصصة، وأيضاً تعلم مهارة معينة أو حرفة تؤهلك للعمل بها والحصول على خبرة وربما بعد سنوات تترقّى فيها وتتأهل لمركز وظيفي أعلى، فكل خطوة تعطيها حقّها سيكون لها بإذن الله ما بعدها من استحقاقات.

علاقة الفرص بالصدفة والحظ
فرص الحياة كثيرة بعدد الأيام والساعات واللحظات، تزداد كلما اجتهدنا وتقل كلما توقفنا، والزمن الحاضر هو الأثمن في صناعة الفرص، فلا يقلقنا مستقبل ولا يحزننا ماضِ، فالحاضر هو السبيل للخروج من عقدة انتظار الفرص إلى صناعتها

لا يمكن للصدفة أبداً أن تضعك في درجة من دون اجتياز ما قبلها.. على سبيل المثال، لا يمكن أن أدعو الله بالولد الصالح وأنا لم أتزوج بعد أو أحلم بالثروة الطائلة وأنا دخلي من وظيفتي فقط من دون محاولات أخرى كالتجارة أو غيرها، حينها لن أكون بانتظار فرصة بل معجزة من السماء، وهذا متعذّر ولا يُعد سلوكاً منطقياً. لا يؤمن بالصدفة والحظ إلا الذين لا يملكون رؤية ولا هدفاً في الحياة، وهم نظروا إلى فئة وعمّموها على كل الناجحين، وهؤلاء هم الأشخاص غير الأكفاء الذين يتقلدون المناصب أو يجنون الأموال لأسباب معروفة مجتمعياً مثل المحسوبية وغيرها، فلما تشوه مفهومهم ن النجاح توقعوا أن ذلك عند الجميع وهذا مجانب للصواب، وبالأساس هؤلاء مستثنون من حساباتنا. نحن نقصد ونريد الأشخاص المنجزين في حياتهم، الذين تقلّدوا مراكز باستحقاقهم، والين خيرهم ونفعهم فائض على مجتمعهم.. أشخاصاً مستثمرين في ذواتهم كما سيرد معنا لاحقاً.

كيف ينبغي أن ننظر إلى الفرص الضائعة؟

في تصورنا لا يوجد شيء اسمه فرص ضائعة وأن فرص الإنسان هي التي اغتنمتها، وأما تلك التي فاتته ما كانت مقدرة له أصلاً، وهنا نستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم "وما أخطأك لم يكن ليصيبك" (رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح). أقول نعم؛ مثل هذا القول حق ويقوّي الإنسان في عدم الاسترسال في النّدم المفرط والأسى على ما فات، وما يعضّده قول الله تعالى "ولا تأسوا على ما فاتكم" (سورة الحديد، الآية 23)، ولأننا نفوس بشرية يعترينا الضعف ولا محالة سنشعر بالأسى والندم فيأتي كلام الوحيين ليضبط لدينا الأمر من دون إفراط ولا تفريط، إذن هنالك فرص ضائعة في حياة كل إنسان، لكن ليجعل من الأسى عليها حافزاً، وليكون أكثر حرصاً ويقظة في اغتنام الفرص وطلبها، وأيضاً ليجعل من الندم تفكّراً وتعلّماً من التجارب السابقة. 

كيف ينبغي أن ننظر إلى الفرص المنتظرة؟

أما الفرص المنتظرة فهي الفرص التي ينشغل الشخص بها "فكراً وعملاً" في الحاضر، ويتوقعها في المستقبل، وليس التي يحلم بها وينتظرها من دون جهد. فعود على بدء وتحديداً أقسام الزمن الذي ذكرناه في المقدمة، والتي قلنا فيها أن الحاضر هو أهم زمن في صناعة الفرص المستقبلية، ففيه يتم رفع الكفاءة والجاهزية وكسب المهارات المختلفة، كل ذلك لغايات استشرافية أبعد من الحاضر واللحظة ولما هو عليه الآن من حال، ومن لا يمتلك هذه الرؤية ولا يتحفّز للفرص التي في عالم الغيب سيتعب وعلى الأغلب سيبقى متأخراً عن أقرانه أصحاب هذه الرؤية، فإذا أتت الفرص وأصبحت في عالم الشهادة لن يكون فاقد تلك الرؤية جاهزاً فسيقف مكتوف الأيدي وسيحاول عبثاً وربما لا يسعفه الوقت.
 

الاستثمار في الذات وزيادة الفرص

الأهم هو ذاتك التي ترافقك طوال العمر والاستثمار فيها، فالتعلم المستمر وتطوير الذات هو أهم الفرص في الحياة كلها، وأساس صناعة الفرص هو الاستثمار في الذات، وذلك من خلال تنمية المهارات وزيادة الخبرات عن طريق الدراسة الأكاديمية، والعمل في التخصص ذاته، ومن ثم التطوع من دون أجر أو عمل مبادرة صغيرة أو تأسيس مشروع ناشئ .. كل ذلك لكسب الخبرة وتوسيع دائرة العلاقات، وقبل كل ذلك التأكد من موافقة تخصصك لميولك وقدراتك وموهبتك، ومقياس تلك الموافقة هو العطاء والمساعدة بلا حدود أو شروط، حينها ستجد وبشكل تلقائي زيادة في حجم الفرص من حولك بل ستجد أن الفرص هي التي تبحث عنك، إذن فالفرص حولنا في الحياة تزيد وتتجدد مع كل طَرْقٍ وسعي وبذل ومع كل عطاء وتطوير، وتقل وتتبدد كلما انكمشنا على أنفسنا وعشنا من أجل ذواتنا.

الفرصة الوحيدة والأخيرة

فرص الحياة كثيرة بعدد الأيام والساعات واللحظات، تزداد كلما اجتهدنا وتقل كلما توقفنا، والزمن الحاضر هو الأثمن في صناعة الفرص، فلا يقلقنا مستقبل ولا يحزننا ماضِ، فالحاضر هو السبيل للخروج من عقدة انتظار الفرص إلى صناعتها، والاستثمار في الذات هو أساس هذه الصناعة التي تجعل الخيارات أمامنا متاحة ومتعددة. تبقى حقيقة واحدة وهي أنه يوجد ما يسمى بـ "الفرصة الوحيدة والأخيرة"، الفرصة الوحيدة والأخيرة في الحياة؛ هي الحياة نفسها ووجودنا في هذه الدنيا، فهي منحة لمرة واحدة لا رجوع إليها بعد مغادرتها ولا يمكن أن تتكرر، علماً بأن اغتنام الحياة لا يتعارض مع اغتنام ما فيها، بل يتداخل ويتكامل وخصوصاً مع جانب البذل والعطاء والحياة من أجل الآخرين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.