شعار قسم مدونات

كيف استخدم محمود عباس الهباش لتبرير مواقفه باسم الدين؟

blogs محمود الهباش

في مشهد يبدو ساخرا، خرج محمود الهباش، قاضي قضاة فلسطين الشرعيين، عقب اندلاع الاشتباكات بين شباب المقاومة وقوات الاحتلال، ليعلنها من على منبره، ومستشهداً بنص من القرآن الكريم "مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا" وليؤكد بعدها بأن "الدم الفلسطيني مثل الدم اليهودي تماماً". وضع "شيخنا" بتصريحه العمليات الفدائية وجرائم الاحتلال على نفس المستوى، مؤكداً بأنه لا فرق بين جريمة قتل هنا أو هناك.

 

لم يكن تصريح الهباش غريبا عن مساره الذي اختطه خلف الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ورغم ما أثاره تصريح الهباش الأخير على منصات مواقع التواصل من جدل وسخرية واستهجان، إلا أن مداخلات الهباش لم تقف عند ذلك الحد، ولم تكن منقطعة عن سياقاتها، وهو الأمر الذي لا يمكن فهم دوافعه ومآلاته دون فهم السيرة الذاتية للهباش نفسه، بدءا من كونه عضوا في حركة حماس، ووصولا لتحالفه مع رأس المعسكر الآخر في السياق الفلسطيني، محمود عباس.

  

الهباش.. من حماس إلى فتح

عُين الهباش في منصب قاضي قضاة فلسطين الشرعيين ومستشار للرئيس للشؤون الدينية والعلاقات الإسلامية، بناءً على قرار الرئيس الفلسطيني بعد أن طُرد من حركة حماس في عام 1994. وحسب ما تم تداوله على فضائية الأقصى، التي كشفت ملفات فساد الهباش، وكشفت خيانته ومكره وسرقته المتكررة لأموال الحركة وأموال الزكاة، الأمر الذي دفع حركة حماس لاتخاذ قرار بطرده، وهو ما مثل محطة فاصلة في حياة الهباش.

 

فر الهباش بعد طرده نحو رام الله، ليبدأ بعدها فورا بالتصريح باعتباره أن ما جرى كان استقالة من حماس، وأنه لم يُطرد. إلا أن حافظ الكرمي المسؤول الإعلامي لهيئة علماء فلسطين في الخارج كان له رأي آخر، حينما أكد أن الهباش يؤمن بأن بينه وبين غزة ثأراً كبيراً وذلك باعتبار أن غزة أخرجته هارباً بعد أن كُشف فساده في غزة. لذلك فهو يعتقد بأن غزة فضحته، وبالتالي فهو يثأر لنفسه منها. وهذا ما دفعه لأن يبرز من جديد مستقلاً بنفسه لتشكيل حزب الاتحاد، معتقداً بأن هذه هي وسيلته لمحاربة حماس. ومع محمود عباس إلى السلطة الفلسطينية بدأ يتذبذب لينضم لحركة فتح، وليكون أول المحاربين والناقدين لحركة حماس، إلى أن انتقل تدريجياً لملازمة عباس حتى كسب ثقته.

 

وَجد عباس في الهباش الطلاقة في الخطاب الديني، وهذا ما دفعه كأي رئيس "متسلط" بأن يكون بحاجة إلى جانبه شخصية ولو كانت كاريكاتيرية دينية "بمصطلحات دينية" لتزين له ما يفعل من خلال الآيات القرآنية والأحاديث. وهذا ما أهله لأن يطلق خطبه من منبر مسجد التشريفات في مقر الرئاسة برام الله وأمام الرئيس الفلسطيني.

  

الهباش.. فن التطبيل باسم الدين

"ما أوضعك.. يا من عزفتَ على سماءِ الذلِ أوتارَ التنازل مقطعَك حينَ استجبتَ لبغيهِم"


بدأ الهباش مسيرته مع عبّاس الذي نزع سلاح المقاومة وأعلن أن التنسيق الأمني مع الاحتلال مقدس، ليتعهد الهباش لرئيسه باستجلاب الفتوى تلو الفتوى، للتبرير والتأويل باسم الدين بالتأكيد -كونه يمّثل منصب قاضي القضاة-. حيث أن مهمة التشريع والتبرير لصالح الرئيس لم تكُن صعبة على الهباش اطلاقاً، فقد عمل على تبرير كل قرار يتخذه عبّاس.

 

واستمر في طريقه مع رئيسه "مطبلً" بأن "الرئيس أب ورئيس للشعب كله، ليس هناك أحد مُقدم على أحد عند الرئيس، الجميع سواسية، والرئيس ملتزم بالقانون والعدل". حيث كان ذلك كافٍ ليوضح العلاقة بينهما -كونهم وجهين لنفس العملة-.

فقد وجه الهباش تركيزه على تشويه وتكفير صورة أي حركة أخرى، وبالأخص حركة حماس ليتماشى مع توجه عباس، وبسبب ماضيه ومعانته معهم. لذلك، كان يستهدفهم في خطاباته الدينية وخصوصاً خُطب يوم الجمعة الفريدة من نوعها، وعمل على تكفيرهم وشرّع بأن محاربتها والقضاء عليها فريضة شرعيّة على كل مسلم وذلك لأن حماس بحسب وصفه "تنهى عن المنكر وتأتيه"، ومؤكدا بأن حماس "أصبحت أداة رخيصة في يد الاحتلال الإسرائيلي وأمريكا، وأنها تتاجر بدماء الشهداء للحصول على بضعة ملايين، ناهيك عن وصفه بأنها نست وتجاهلت القدس وفلسطين."

   

   

تجلت تناقضات الهباش في مقابلة أعدتها "الجزيرة نت"، والتي سُئل من خلالها بأن هل من حق أي شخص يرتقي المنبر ويتحدث في السياسة وفق المُجمع عليه، وليس السياسة الحزبية؟ فأجاب بأن المسجد ليس مكاناَ للصلاة والعبادة فقط، بل حاضنة لبناء العقول والتوجيه المعنوي والسياسي والوطني والاجتماعي، لكن ممنوع استخدام الدين والمنبر للتنظير الحزبي"… بينما في الواقع، يستغل شيخنا المنابر لمهاجمة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" ويشن حرباً حزبية من خلال خطبه.

 

فمع كثرة مواقف عباس التي تحتاج لتبرير أمام الشعب الفلسطيني اولاً، والعالم ثانياً. فقد "اضطر" عباس للمشاركة في جنازة الرئيس التاسع لإسرائيل "شمعون بيرس"، رغم إدانة العديد من الفصائل الفلسطينية التي دعته لإن يتراجع عن قراره وعدم المشاركة في الجنازة التي تحولت لاجتماع دعم دولي لإسرائيل.

 

وكعادة الهباش، فقد خرج عباس ليجد التفسير الأنسب لهذه المشاركة "الشرعية" وصرح بأنها تأتي في إطار الحنكة السياسية التي قطع الرئيس خلالها الطريق على المتربصين بالمشروع الوطني، وعلى من أرادوا أن يضعوا الرئيس في موقف محرج، ليرفض المشاركة ويظهر وكأنه معادياً للسلام.

 

فقد لوحظ أن مواقف الهباش وتبريراته وتشريعاته تجاه الرئيس الفلسطيني، لم تكن مواقف اتُخذت عفو الخاطر ووحي اللحظة، بل ما هي مواقف مُخطط لها من قبل تسلمه منصب قاضي قضاة فلسطين ومستشار للرئيس. وهذا ما أتاح لنا فرصة الرد على التشريعات التي أصدرها "شيخنا" بشأن ما تم ذكره سابقا. أولاً، ما مرجعية الحكم الذي شرعته بشأن محاربة حماس والقضاء عليها؟ ولنفترض أن حماس فعلاً أداة "رخيصة" في يد الاحتلال الإسرائيلي، فما هو تفسيرك للسلام الذي يدعو له محمود عبّاس ويوّد تحقيقه مع إسرائيل؟ ولنفترض أيضاً أن حمّاس تجاهلت القدس وفلسطين، فما هو حكمك أو تشريعك لِما قاله عبّاس في أحد خطاباته "مالنا ومال القدس! الرسول صلّ الله عليه وسلم ساب مكة"؟ 

   

   

استشهد عباس بموقف النبي صلّى الله عليه وسلم الذي أُخرج من مكة عنوة بعد أن كادوا له مشركوها ليقتلوه، ولولا ذلك لبقي إلى أن يشاء رب العباد. وفي المقابل، عاد النبي إلى مكة فاتحاً حاكماً قوياً، ولم يستسلم كما فعل عباس واتباعه في مفاوضات سلامه التي لا تنتهي.

  

الهّباش تحت بطانة عباس

"ولنا دولة يحرسها طير السنونو يا ام عطا ولبسوه رتب عسكرية والسنونو إله نمو اقتصادي والسنونو إله خطط أمنية والسنونو عم ينبذ العنف ويعلن التزامه الكامل بالاتفاقية"

تميم البرغوثي

 

عمل الرئيس الفلسطيني جاهداً لوأد الحراك المسلح وليتخذ كل الإجراءات ضد أي حركة تهدد السلام مع إسرائيل وخصوصاً من يصفها بـ “الحركة الإرهابية" كحماس التي كفرها قاضي القضاة، وليصدر فتوى بأن محاربتها والقضاء عليها فريضة على كل مسلم، كما ذكرنا سابقاً. ولعدم إنكار دوره ودور مستشاره وجهودهم الجبارة التي تتمثل في أعمال السلم التي حققوها بنجاح، فقد تمحورت أعمال عباس والهباش في إرجاع المستوطنين إلى أهاليهم، واعتقال المقاومين، وإطلاق النيران لتفريق المتظاهرين، وذلك لتمسكه بما يصفونه بـ “المقاومة السلمية" لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي "البريء".

 

تقودنا هذه المواقف للكشف عن سر الهباش وتشريعاته التي يصدرها تحت غطاء ديني ليبرر مواقف عباس "المخزية" أمام العالم، وهذا ما خلق له مكانة على كل طاولة للحوار السياسي بسبب فتاواه المثيرة للجدل، ولمناقشة فساده وتمدده الذي فاق الحدود كلها. بالعادة يعتمد الفاسد بأنه لديه بطانة تحميه ممن سيقفون في وجهه ورجال دين يشرعون مواقفه المتناقضة.

 

لذلك عُين الهباش في هذا المنصب ليُحلل ويُحرم بما يتناسب مع رئيسه الذي يسعى بكل ما أُوتي من قوة بأن يحقق "السلام مع إسرائيل". وفي مقابلة هاتفية أجراها الإعلامي الفلسطيني أحمد سعيد مع الهباش، والتي نوه بأن خطبه لم تكن تحتوي سوى مدحاً للرئيس عباس وخوت تماماً من أي تقويم أو إصلاح، وأنه لم يره أبداً قد قوّم الرئيس أو خطئه" بينما كان رد الهباش بأنه ليس مدّاح وليس بشاعرٍ، وبأن لديه قناعات سياسية ودينية ووطنية، يقوم بعرضها مع رؤيته، جامعا فيها بين المنطلقات الفكرية التي يستند عليها وبين السياسة العامة التي تتبناها القيادة الفلسطينية.

 

وختاماً، يتضح لنا بأن الهباش منذ اللحظة التي طُرد بها من حماس أصبح كالسيف المُسلط عليهم. ولكن، لم يكن الهباش متقناً للدور بسبب تناقضات أفعاله التي فاقت الحدود، حيث أنه كان ينهى عن خلقٍ ويأتي به. فتناقضات الهباش لا يستطيع أحد فهمها إلا من خلال ما قاله محمود درويش "أنا والغريب على ابن عمِّي، وأنا وابن عمِّي على أَخي، وأَنا وشيخي عليَّ، هذا هو الدرس الأول في التربية الوطنية الجديدة، في أقبية الظلام".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.