شعار قسم مدونات

هل حقا أمر عمر بن الخطاب بحرق مكتبة الإسكندرية؟!

blogs مكتبة الأسكندرية القديمة

تُعد مكتبة الإسكندرية من أكبر مكتبات عصرها، وتسمى أيضا باسم (مكتبة الإسكندرية المَلكِية) أو (مكتبة الإسكندرية العظمى)، ويعود الفضل في تأسيسها لبطليموس الأول المعروف باسم (سوستر) في عام 288 قبل ميلاد المسيح عليه السلام، تحتوي على أزيد من 700 ألف لفافة بردية، تتناول مواضيع شتى في العلوم والفنون والآداب والتاريخ والفلسفة والشعر والطب والرياضيات. كانت بحق مكتبة من أشهر مكتبات التاريخ الإنساني.

 

كما يعلم الجميع، تواجدت المكتبة السالفة الذكر بمدينة الإسكندرية في مصر، البلاد التي عرفت تعاقب مختلف الحضارات والأعراق والأديان، آخرها دين الإسلام الذي دخل مصر عبر الفتوحات الإسلامية سنة 641م على يد الفاتح الإسلامي عمرو بن العاص في عهد الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، ليبدأ مسار التمدد الإسلامي بعد ذلك في الشمال الغربي لإفريقيا ومن ثَم إلى الأندلس.

 

وددنا أن نُمهد لهذا التمهيد المختصر، حتى نضع القارئ في السياق التاريخي العام بشقيه الزماني والمكاني، ليتتبع معنا إشاعة مسمومة نشرها بعض المشاغبين والمغرضين، ممن يودون الاصطياد في الماء العكر. يتعلق الأمر بقضية حرق عمرو بن العاص لمكتبة الإسكندرية بأمر من أمير المؤمنين في ذلك الوقت، عمر بن الخطاب. يذكر المؤرخون أن أول من أشار إلى هذه القصة هو المؤرخ الإسلامي عبد اللطيف البغدادي الذي زار مصر سنة 1200م، وقد طالعتُ كتابه (الإفادة والاعتبار) بنفسي، المدوّن بخط اليد، ذكر في ص 28، من الجزء الثاني للكتاب، وقد خصص الجزء الأول لترجمة أبي العباس أحمد بن القاسم بن خليفة الخزرجي المعروف بابن أبي أصبيعة: (..كانت مسقوفة والأعمدة تحمل السقف وعمود السواري عليه قبة هو حاملها وأرى أنه الرواق الذي ذكره أرسطوطاليس وشيعته من بعده وأنه دار العلم الذي بناه الإسكندر حين بنى مدينته وفيها كانت خزانة الكتب التي حرقها عمرو بن العاص بإذن عمر رضي الله عنه)، وقد أوردها دون سند ولا أصل، تلقفها منه بعد ذلك (ابن القفطي) في كتابه (تاريخ الحكماء).

 

ليأتي بعد ذلك المؤرخ المسيحي (أبو الفرج ابن العبري أو بار هيريوس كما يسميه المسيحيون) وهو مسيحي يهودي الأصل من بلاد الشام، ونقلها عن ابن القفطي بعد عقود من الزمن حيث ذكر أنه لما فتح عمرو بن العاص مصر، جاء إليه أحد وجهاء الإسكندرية يدعى يوحنا الأجرومي يطلب منه أخذ المخطوطات من مكتبة الإسكندرية، لينقلها إلى القسطنطينية، كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في الأمر، ليرد عليه الخليفة، (أما ما ذكرت من أمر الكتب فإذا كان ما جاء بها يوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجة لنا به، وإذا خالفه فلا أرب لنا فيه واحرقها).

 

أثارت هذه القصة جدلا كبيرا تصدى لها المؤرخون العرب المعاصرون من أمثال محمد علي كرد وغيره، بالبحث والتنقيب في متون كتب التاريخ، فخلصوا إلى أنها قصة ركيكة وسخيفة وفرية مكذوبة

أثارت هذه القصة جدلا كبيرا تصدى لها المؤرخون العرب المعاصرون من أمثال محمد علي كرد وغيره، بالبحث والتنقيب في متون كتب التاريخ، فخلصوا إلى أنها قصة ركيكة وسخيفة وفرية مكذوبة لا أصل لها في كتب التاريخ المعتبرة، كشجرة خبيثة اجتُثّت من فوق الأرض ما لها من قرار، فمعظم الكتب الإسلامية المعروفة لم تشر للقصة ولو من قريب، نذكر منها، (فتوح البلدان) للبلاذري، (فتوح مصر) لابن عبد الحكم، (تاريخ الأمم والملوك) للمؤرخ والمفسر ابن جرير الطبري وكذلك (البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب) لتقي الدين المقريزي، ذاكرين كل ما يتعلق بالإسكندرية من تفاصيل دقيقة عن حصار حصن بابليون، والمعارك التي جرت في الإسكندرية وغيرها، حتى أن ابن عبد الحكم تحدث عن خطط الإسكندرية، ولا إشارة البتة عن حرق مكتبة الإسكندرية وتدميرها، فيا عجبي!، هل أغفل كل هؤلاء هذا الحدث الكبير وتاهوا عنه؟!

  

وفي استمرار موضوعية مؤرخينا العرب ومصداقيتهم في قتل هذا الموضوع بحثا وإحاطته من كل جوانبه، وحتى لا يتركوا مجالا للشك، فقد أوردوا أيضا مصادر لمؤرخين غير مسلمين، تكون بذلك بمثابة الضربة الأخيرة التي تهدم هذه الأسطورة إلى غير قيام، وتدفنها في مقابر النسيان والزيف إلى غير نهوض، فالمؤرخ المسيحي (يوحنا النقيوسي) كان أحد شاهدي عيان على الفتح الإسلامي لمصر لم يقل أي شيء عن قصة الحرق، وهو لم يكن بأي حال من الأحوال من المتعاطفين مع المسلمين، بل كان قاسيا في كتاباته عليهم، ولا تحدّثَ باقي المؤرخين المسيحيين منذ أوائل الوجود الإسلامي في مصر حتى عصر سلاطين المماليك (ساويرس ابن المقفع..) عن هذا الخبر.

 

ونختم هذا المقال برأيَين لِمفكرَين بارِزَين غربيَّين، فقد فنّد الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (تاريخ العرب) هذا الزعم بكلام واضح بيّن، وذلك في الفصل الرابع، العرب في مصر، ص 225 من الكتاب، نذكره كما هو: (وأما إحراق مكتبة الإسكندرية المزعوم، فمن الأعمال الهمجية التي تأباها عادات العرب، والتي تجعل المرء يسأل: كيف جازت هذه القصة على بعض العلماء الأعلام زمناً طويلاً؟ وهذه القصة دُحضت في زماننا فلا نرى أن نعود في البحث فيها، ولا شيء أسهل من أن نثبت بما لدينا من الأدلة الواضحة أن النصارى هم الذين أحرقوا كتب المشركين في الإسكندرية قبل الفتح العربي بعناية كالتي هدّموا بها التماثيل ولم يبق منها ما يُحرق)، انتهى كلام لوبون.

 

ونورد أيضاً شهادة المؤرخ والفيلسوف الأمريكي الغني عن التعريف، صاحب (قصة الفلسفة)، والحاصل على جائزة بوليترز عن فئة الأعمال غير الخيالية، ويل ديورانت يذكر في مؤلفه الضخم المكوَّن من 42 مجلد (قصة الحضارة)، في المجلد 13، فصل الإسلام في الغرب، ص 263، كلاما مفصلا نشير إليه دون زيادة أو نقصان: (وتختصر الأسطورة هذا الرد الأسطوري في أغلب الظن إلى هذا الجواب القصير: احرقها لأن ما فيها كله يحتوي كتابا واحدا هو القرآن، ويضيف بار هيريوس أن عمراً أمر بالكتب فوُزعت على حمامات المدينة البالغ عددها 4000 حماما لتوقد بها، فما زالوا يوقدون بملفات البردي والرق 6 أشهر، ومن نقط الضعف في هذه القصة، (1) أن جزءا كبيرا من هذه المكتبة قد أحرقه المسيحيون المتحمسون في عهد البطرق توفيلس، (2) وأن ما بقي فيها قد تعرض لإهمال المهملين وعداء الأعداء تعرضا أدّى إلى ضياع معظمه قبل عام 242م، (3) وأن أحدا من المؤرخين المسيحيين لم يشر بكلمة إلى هذا الحادث المزعوم في 500 عام الواقعة بين حدوثه وبين ذكره لأول مرة، مع أن أحد هؤلاء المؤرخين وهو (أوتيكيوس) كبير أساقفة الإسكندرية في عام 933م قد وصف فتح العرب للإسكندرية بتطويل كبير، ولهذا فإن معظم المؤرخين يرفضون هذه القصة ويرون أنها من الخرافات الباطلة) ، انتهى كلام ويل ديورانت.

 

نكتفي بهذا القدر من الإيضاح وإلاّ فالموضوع تحدث فيه الكثير من المتخصصين من أمثال إدوارد كيفن في كتابه (سقوط الإمبراطورية الرومانية) وألفريد باتلر في (فتح العرب لمصر)، وآخرون. لعلّ مقالنا ساهم، ولو بقدر يسير، في تنوير ذاكرتنا التاريخية، ومحاربة كل تزييف قد يطال عقولنا ممن لا همّ لهم إلاّ الكذب والتشكيك، فأمّا الزبد فيذهب جُفاء، وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

————————————————————————-

المراجع:

دورية كان التاريخية. العدد الأول. شتنبر 2008. رمضان 1429هـ

تاريخ العرب لغوستاف لوبون

قصة الحضارة لويل ديورانت . المجلد 13

الإفادة والاعتبار لعبد اللطيف البغدادي

محاضرة حرق المكتبات عبر التاريخ لعدنان إبراهيم

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.