شعار قسم مدونات

عقدة النقص الجماعي.. كهفنا المظلم!

BLOGS مجتمع

"نحن العرب لا نصلح لشيء"، "يلزمنا سنوات ضوئية لنلحق بالركب الحضاري"، "هذا لأننا دول متخلفة"، "لا زلنا في مؤخرة العالم".. لا بد وأنك سمعت أو قرأت شيئا من هذا القبيل يوما ما، ومن الممكن جدا أنك قلته بنفسك، هذه العبارات المتداولة كثيرا يعبر بها بعضنا عن إحباطه أو قلقه، وأحيانا كثيرة تمر على مسامعنا ولا نعيرها أي اهتمام لأننا تعودنا عليها كقولنا الحمد لله بعد شرب الماء، قد تحدث أثرا ما ولكنه لا يتعدى الأثر الذي تحدثه ذبابة تحط سهوا على أنفك وتطير قبل أن يصل إصبعك إليها، انزعاج لحظي يدركه وعينا ولكن أيضا تراكمات ضخمة تثقل لاوعينا وتنغص علينا الحياة دون أن نشعر، إنها تراكمات تشبعنا بها منذ صرنا نفقه القول وعلى غفلة منا غرقنا فيها وجعلناها مقبرتنا الجماعية، كهفنا المظلم الذي أوصدنا بابه على أنفسنا وابتلعنا المفتاح!

إن أشد الهزائم تلك التي تبدأ من الداخل، وهزيمتنا نحن المجتمعات الشرقية للأسف بدأت من هناك بالفعل، بدأت من العمق، لأننا اقتنعنا أننا ناقصين ولا فائدة منا ونتخبط في الخسائر كمن وقع في بركة وحل ولم يعد يرى سبيلا للنجاة، صرنا نرى أنفسنا في الدرك الأسفل ونبخس أنفسنا أمام عملاق الغرب الذي سمموا هواءنا بتعظيمه، وما أشنعها من هزيمة تلك التي تتمكن من جوف أمة بأكملها، لأن الهزيمة الداخلية تشل كل إمكانية للنهوض من جديد، على عكس غيرها من الهزائم التي تبقى قابلة للتخطي ما دامت سطحية، وانظر لليابان تتأكد، تلك الدولة التي خرجت من الحرب العالمية مهزومة مخربة عن آخرها، ولكنهم لم ينهزموا داخليا ووثقوا بأنفسهم، فصنعوا طريقهم نحو القمة في وقت قياسي!

يجب أن نتخلى عن كهفنا هذا لأنه وهم مظلم يشل قدرتنا على إنقاذ أنفسنا، إن لم يكن لأجلنا فلأجل الأجيال الصاعدة التي لا تستحق أن تعيش في ظلمات كهف بنيناه بغفلتنا

قد يبدوا لك الأمر ضربا من الخيال واجترارا لحروف رواد التنمية البشرية، وهذا مبرَّر، فكونهم يسبقوننا أمر لا يمكن أن ننكره ولكن ذلك ليس لأنهم أفضل ولا لأننا ناقصين في شيء، دعك من الاحصائيات والرسائل المفخخة التي يمررونها في الأفلام والإعلام، صدقني ليسوا أفضل منا في شيء، اللهم في كونهم نجحوا في إقناع كثيرين منا أنهم كذلك، وأنهم ذوي الحضارة والتاريخ والأمجاد وأننا مجرد شعوب بدائية لا تاريخ لها، وهذا ليس قولي، ألق نظرة على كتاباتهم في الاستشراق تعرف.

وإني أجده من العار أن نخضع لهذا التنويم المغناطيسي الجماعي ونصدق أننا كما يقولون ناقصين ونحن نملك أعظم حضارة وأعظم تاريخ، ذاك التاريخ الذي سعوا جاهدين ألا نتعرف عليه فحرمونا دراسته، لأنهم يعرفون أن العودة للذات هي أول خطوة ثابتة نحو التقدم، ذاك التاريخ الذي يشعرون بالهزيمة حين يطلعون عليه، تاريخ دولة الحق والعدل والقانون، أبوبكر وعمر وعلي وعثمان وخالد وعمر ابن عبد العزيز واللائحة أطول من أن يحصوها، حين كان أمير المؤمنين الحقيقي يُسأل ويُحاسب في قطعة ثوب زائدة لبسها دون عامة الشعب فيبرر، وتراجعه امرأة في قانون فيقر أنها صدقت وهو أخطأ، بينما كانوا هم يقبعون في الجهل والقذارة يبتاعون صكوك الغفران. وهذا ليس شماتة وإنما تذكير بأننا لا ينقصنا شيء كما يزعمون هم ومن صدقهم، فأكثر ما تفخر به الأمم وتتباهى به تاريخها.

ولا تغتر بالحاضر، فإن كانوا اليوم في القمة ونحن هنا فذلك لأنهم بنوا تقدمهم على أنقاضنا بما أخذوه منا زمن الاستعمار، ولا يستوي أن نقارن بين رجلين سرق أحدهم ثروة الآخر فاغتنى وترك الآخر يذوق ويلات الافتقار، لا سيما إن كان السارق لم تشبعه السرقة فقط بل سعى لحرق كل محاولات المسروق لبناء ثروة من جديد، حتى المعنوية منها.

ثم انفض عنك أفكار المتشبهين بالغرب التي مفادها أن هذا بكاء على الأطلال وكلام المرضى بنظرية المؤامرة، لأنك لو استخدمت ملكة النقد التي اودعك الله إياها مجانا تدرك أنهم بالفعل يمررون جنون عظمتهم واحتقارهم لمن دونهم في كل مادة إعلامية أو سينمائية تصلنا، إنهم يؤمنون جدا بأن التظاهر بالتميز والعظمة يجعلهم كذلك لأن في ذلك إقناع للغير بالدونية وكل شيء يبدأ بالاقتناع، ويعلمون هذا لأطفالهم وهذه طريقة ناجحة جدا بشهادة تجارب علم النفس البشري، فكل سلوك نتيجة لفكرة، وأن تزرع في إنسان أفكار تجعله يشعر بالأفضلية والعظمة حتما ستجعل منه يتصرف على ذلك النحو والعكس صحيح، فحين يتشرب الإنسان الاحتقار والدونية في أفكاره يتصرف على ذلك المنوال أيضا، اللهم إن تفطن إلى أن أفكاره قابلة للتغيير وأنه قادر على التحرر من عبوديتها.

إن ما يجب أن لا يغيب عن أذهاننا حقا هو أننا يجب أن نتخلى عن كهفنا هذا لأنه وهم مظلم يشل قدرتنا على إنقاذ أنفسنا، إن لم يكن لأجلنا فلأجل الأجيال الصاعدة التي لا تستحق أن تعيش في ظلمات كهف بنيناه بغفلتنا، ويكفينا ذلا أننا عشنا فيه ما عشناه فلما ننضحي بالقادم أيضا؟ وقد صارت بين أيدينا فرصة الاستيقاظ وإيقاظ الآخرين أيضا، فرصة استفراغ المفتاح، فرصة التنبه لكوننا قادرين على صنع الطريق نحو الأفضل طالما أدركنا أن الهزيمة الداخلية هي لعنتنا السوداء التي حان وقت التخلص منها، فقد قالها الله عز وجل في كتابه المحفوظ صريحة براقة ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ صدق الله العظيم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.