شعار قسم مدونات

النهضة الاتحادية.. ومفاتيح المجتمع الناشئ

blogs مجتمع

تتواجد وتتعايش في مجتمعاتنا العربية مقومات اجتماعية متنوعة تمثل كل منها مرحلة تاريخية من مراحل تطور المجتمعات الإنسانية، فهناك البنى الاجتماعية العشائرية والطائفية والدينية التي تعيش جنباً إلى جنب في قلب الدولة العميقة وعلى حسابها. تستقطب كل بنية من هذه مشاعر الولاء الاجتماعي وفقا لدرجة أهميتها وحضورها في دائرة الحياة الاجتماعية. وتجد هذه الرؤية مشروعيتها عند الأحزاب وتفككاتها والتي لا تنفك تؤكد في كل مناسبة على الخصائص الأبوية البطريركية للمجتمع العربي الذي يتسم ببنية داخلية لا تزال تقوم على علاقات القرابة والعشيرة والفئة الدينية والإثنية الضيقة ولم تخرج منها ولم تتعلم من دروس التعنيف للحضارات المتقدمة.

يبرر بعض الكتاب العرب حضور هذه الصيغ الاجتماعية الضيقة في المجتمع العربي ولا سيما ظاهرة الحضور الكبير للقبيلة في الحياة الاجتماعية العربية بأن المنطقة العربية تتميز عن غيرها من مناطق العالم بكونها أعظم امتداد صحراوي على وجه الكرة الأرضية وهذا معناه أنها أكبر منبع للبداوة في العالم ومع تحفظنا الشديد حول هذا الرأي إلا أنه لا يمكن لنا أن ننكر دور البيئة في تشكل وتحديد صيغ الوجود الاجتماعي مع أن استمرار القبيلة ووجودها قائم في كثير من المناطق التي لا تحمل طابعاً صحراويا في العالم ومدن كبيرة حديثة.

الانتماء الفعلي يفرض نفسه ويتجاوز حدود وأبعاد العامل الذاتي وذلك كله مع اعتبار إمكانية التطابق بين العنصرين

لا تزال القبلية والطائفية والعشائرية تمثل صيغ اجتماعية تجاوزتها أغلب المجتمعات الإنسانية وهي تشكل برأيي حصون التخلف الاجتماعي ومتاريس القهر، وبالتالي فإن هدم هذه الحصون الطائفية والعشائرية يحتاج إلى معول قوي من الديمقراطية التي يمكنها مع أن تمهد لبناء اجتماعي جديد لا يستقيم إلا في كينونة الأمة والوطن.

إن وهج الديمقراطية ومساحاتها ودفئها الإنساني يمكن أن يشكل منطقاً جديداً يستلهمة الإنسان العربي في بناء حداثته وحضارته الجديدة، وهذا يعني في النهاية أنه يجب تأكيد الحضور الإنساني والديمقراطي للإنسان في مجتمعه، وأنه وبقدر ما تستطيع الدولة المدنية والقوى الاجتماعية الحرة أن تؤكد الديمقراطية وحقوق الإنسان بصورة راسخة عندها سيخرج سكان الوطن العربي من الحصون إلى الفضاء الخارجي للمشاركة في بناء الوطن، وهذا بدوره يمنع القبيلة من التحول إلى قبلية والطائفة إلى طائفية. ونحن نحتاج إلى نقلة نوعية نستطيع بها أن تتجاوز منطق التخلف والتشرذم ، وهناك حاجة مضاعفة، اليوم في البلدان العربية كافة، إلى فلسفة تربوية تضع في رأس اهتماماتها الخروج بالإنسان العربي من “فرد” في القبيلة إلى عضو في المجتمع المدني، وبالعلاقات الاجتماعية من علاقات قبيلة إلى علاقات مدنية تتجاوز الأطر العشائرية والطائفية.

الانتماء العروبي يؤكد حضور مجموعة متكاملة من الأفكار والقيم والأعراف والتقاليد التي تتغلغل في أعماق الفرد فيحيا بها وتحيا به، حتى تتحول إلى وجود غير محسوس، كأنه الهواء يتنفسه وهو لا يراه. ويشكل الانتماء للوطن العربي جذر الهوية الاجتماعية وعصب الكينونة الاجتماعية. فالانتماء هو إجابة عن سؤال الهوية في صيغة من نحن؟؟ والانتماء أيضا هو صورة الوضعية التي يأخذها الإنسان إزاء جماعة أو عقيدة، كما أنه يشكل مجموعة الروابط التي تشد الفرد إلى جماعة أو عقيدة أو فلسفة معينة، وقد يأخذ صورة شبكة من المشاعر، ومنظومة من الأحاسيس التي تربط بين الفرد والمجتمع، وهذا بدوره يؤسس أيضا لمجموعة من العلاقات الموضوعية التي تتجاوز حدود المشاعر إلى منظومة من الفعاليات والنشاطات التي يتبادلها الفرد مع موضوع انتمائه.

فالفرد في القبيلة يشكل صورة مطابقة لصورتها إذ يحمل روحها ويجسد معانيها ويستلهم عاداتها وتقاليدها، إنه صورة مصغرة لقبيلته بكل ما تنطوي عليه من معاني ومشاعر وقيم وعادات. وهذا يعني أنه يطابقها ويعبر عنها، وتلك هي صورة الهوية لأن مفهوم الهوية يعني المطابقة بين شيئين في نسق وحدة واحدة.

ربما قد ينتمي الفرد بالضرورة إلى قبيلة ولكنه لا يشعر بالولاء لها، وعلى خلاف ذلك فقد لا ينتمي المرء إلى قبيلة محددة ولكنه قد يكون قبلياً بمفاهيمه وتصوراته وتصرفاته. فالانتماء الفعلي يفرض نفسه ويتجاوز حدود وأبعاد العامل الذاتي وذلك كله مع اعتبار إمكانية التطابق بين العنصرين، فقد يكون المرء عربياً ومؤمناً بعروبته، أو مسلماً مؤمناً بإسلامه في الآن الواحد، وهذه هي حالة التطابق بين الانتماء والولاء. وإذا كان الفصل بين هذين العاملين يعود إلى اعتبارات منهجية سوسيولوجية ضرورية، لتحليل ودراسة الانتماء الاجتماعي للأفراد، فإن الباحثين يدركون بعمـق مدى التأثير المتبادل للقائمين العاملين بتحديد هوية الانتماء الاجتماعي للفرد. فالانتماء هو شعور الفرد بالارتباط بالجماعة وميلة التي تمثل أهدافها والفخر بحقيقة أن الفرد جزء منها، والإشارة الدائمة إلي الانتماء ولا سيما في لحظات الخطر.

القبيلة كترجيد تفصيلي هي تكوين اجتماعي يقوم على روابط الدم والقرابة وروابط العادات والتقاليد المتوارثة، ويعد الانتماء القبلي وحدة التنظيم الأساسية في المجتمعات العربية التقليدية. وهي بالتعريف التنظيمي الدولي "جماعة تربط أعضاءها صلات الدم والقرابة ونمط الإنتاج والتوزيع، والاستهلاك، وأسلوب المعيشة، والقيم، ومعايير السلوك المشتركة وهيكل السلطة الداخلية".

ما يكسر القلب جداً أن الدولة الحديثة في الوطن العربي لم تستطع أن تبدد هذه الانتماءات العشائرية أو أن تتكامل بينها عبر نقلة ديمقراطية حقيقية، وبقيت هذه الدولة في كثير من بقاع الوطن العربي دولة عشائرية أو طائفية تستمد نسق وجودها من التكوينات الصغرى القائمة في المجتمع وتعتمدها في الهيمنة على السلطة والمجتمع. على هذا الأساس يمكن القول بأن وجود البنى الطائفية والعشائرية يستند إلى غياب الديمقراطية بمختلف تجلياتها في المجتمعات العربية، فالديمقراطية يمكنها أن تؤسس لدولة عصرية تضمن لجميع أفرادها الحق في الوطن والمواطنة على حد سواء وهذا بدوره يشكل المنطلق المنهجي لتغييب مختلف أشكال الولاءات الطائفية والعشائرية الضيقة في المجتمع..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.