شعار قسم مدونات

خيبات الأمل.. صفعات القدر التي توقظنا من الأوهام

BLOGS حزن

مثل مُسافرٍ دونَ زادٍ تجلد الشمسُ ظهرَه العاري في الصحاري الشاسعةِ القاحلة.. يحمل قلبَه بيديه المضرجتين بالفشل الذريع والآلام الجارحة، تجثم الذكريات الثقيلة على صدره ويصرخ صوتُه المجروح عبثًا: النجدةَ النجدة، وحدَه في الليالي الموحشة الباردة يختبئ من وحوش الحياة الضارية، يوقد ما تبقى عنده من أمل لعله ينجو من صقيع اليأس بمعجزة.

ليسَ سهلًا على الإطلاق أن تتعرض لخيبة أمل.. أن تضيع مشاعرك وتوقعاتك على شيء أو شخص لا يستحق، وكأن المشاعر والجهود والآمال التي رميتَها تعود إليك سهامًا تترصد قتلك! إنه لشعور قاتل للحيوية مُحبِط للهمة مجمّدٌ للطاقة.. أن تسير آلاف الأميال في طريقٍ ما، ثم إذا أوشكت على الوصول إلى نهايته علمتَ أنه الطريقُ الخطأ وأن خُطواتِك كلَّها ذهبت سدى.. يا لها من حسرة عظيمة! فلتعلم يا صديقي أن استقامةَ خط الحياة أمرٌ مستحيل، وأن تعرجاتِه أمرٌ محتوم بين المد والجزر.. بين الفرح والحزن.. بين الرضا والسخط.. بين الغنى والفقر وبين كل شيء ونقيضه.. ولا بد أن هذا التباين الشديد أحيانًا له حكمة وهدف، ومن هذه القاعدة يستطيع المرء مراجعة أمور دنياه بحيادية بعيدًا عن مشاعر المظلومية التي لا فائدةَ منها.

قد تكون خيبات الأمل أحداثًا غيرَ مفسرةٍ لمن يخشى مواجهةَ نفسه، وقد يكون تفسيرُها بسيطًا للشجعان وهو الانقياد إلى الوهم.

واعلم أن الوهمَ من أعظم أعداء الإنسان وأشدهم خطورةً، وخطورته تكمن في استتاره واختراقه المشاعرَ والأمنيات. يا له من لص مُحترف يعيش معنا سارقًا الأعمار ومُبذرًا الطاقات والجهود من أجل نيل نتائج غير ممكنة وغير واقعية، يقتاتُ على شغفنا الخالي من العقل وإقبالنا الفاقد للحذر وتمنياتنا الساذجة التي لا يتبعها جهد مركز ولا يرسمها طريق واضح جلي. لذلك فإن التخلص من هذا العدو ضرورة لا ريب في أهميتها، لكن الأمر ليس سهلًا (أن نتخلص من الأوهام) بل يحتاج تدخلًا قدريًّا بصفعة قوية تنفض هذا الغبار السميك عن أعيننا.

إنّ القدرَ المعروفَ بحزمه ودراميةِ تفاصيله لهو مُدرسٌ ملهِمٌ عظيم، قد لا نفهم دروسه من أول وهلة.. لكننا بعد أن يمر علينا الزمن سنفهمها جيدًا ونعي الحكمة منها وقد نشكر هذا المعلم الذي يقسو علينا أحيانًا لأنه وبالرغم من سذاجتنا وقلة تدبيرنا، أرانا الطريق الصحيح وأعطانا فرصة جديدة لتغيير المسار. بهذا المنطق نستطيع الخروج من الحالة الشعورية العدمية التي تخلفها لكمات الحياة على قلوبنا، لَكُم أن تتخيلوا عاشقًا أصابه الحبُّ في مقتل وشرّد النومَ من عينيه.. مستهامًا هائمًا في الوديان يستجدي لحظة وصالٍ من معشوقه القاسي غير المبالي بحاله ولا المكترث لأمره المتكبر المستعلي عليه.

وهذا العاشق المبتلى يَعد الليالي ويُناجي الأقمار مقصّرا الوقت في سبيل اللقاء، قد يتأخر الرفض الصريح وقتًا فيملأ شوقُ العاشق فراغَه بآماله المستحيلة.. ثم إذا رُفض بصراحة ووقاحة أحيانًا يظن بأن الدنيا ضاقت عليه أو أن الأرض انشقت وابتلعته. ستكون الضربةُ موجعةً لدرجةٍ لا يظن أن بعدها خلاصًا قادمًا! سيشرب الأغاني الحزينة صباحَ مساءَ، وسيبحث عن قصائد مجنون ليلى وابن زيدون ليُكفّن بها روحَه التي قتلها الهجر.. قد يُنكر في بادئ الأمر ما حل به وقد يحاول مرة واثنتين أو أكثر لكنه سيعود خاليَ الوفاض في كل مرة، قد لا يُدرك أن السيفَ قد سبق العذَل لكنه تلقى صفعة القدر وانتهى الأمر.

بعد وقت.. وربما يطول، سوف يشعر بنبضات قلبِه.. يتحسس شعرَه ووجههُ، يرى نفسه في المرآة ويشرب فنجان قهوةٍ مطلّا على منظر بديع. ينظر إلى السماء الصافية بعينين لم يسلبهما البكاء قدرتهما على رؤية الجمال، يركب بحر الأيام بقاربه الذي أنهكته الأعاصير من قبل وظن أنه لن يُبحر به أبدًا.. لكنه يُبحر به ويجوب العالم، هناك مقعد فارغ بجانبه لم يكن يتوقع أنه سيكون فارغًا عندما سيُبحر به مرةً أخرى، لكن الرياح لم تتوقف والبحر لم يجف والقلب لم يمت! لم تنتهِ الدنيا إذن ولم تقُم القيامة، وها هي الحياة تلوح بيديها من جديد، قد تكون خيبات الأمل أحداثًا غيرَ مفسرةٍ لمن يخشى مواجهةَ نفسه، وقد يكون تفسيرُها بسيطًا للشجعان وهو الانقياد إلى الوهم.

لخيبات الأمل ألف مثال ومثال، فقد تجيء على شكل قصة حب فاشلة أو على هيئة ثقة عمياءَ ترتدّ إلى خنجر مسموم يجتاح الضلوع، وقد تكون فشلًا علميّا أو أكاديميّا أو اجتماعيّا.. إلى آخر أنواع الفشل التي قد تحل على المرء، لكن الإنسانَ الذي يعرف حقَّ نفسه عليه حتى وإن أبدا مشاعر الحزن والهم والتعب والانعزال (وهذا حقه الطبيعي) فيجب عليه أن يلتقط إشارات القدر وأن يُدرك أنه اقترف خطأً ما، خطأٌ لا عودةَ عنه ولا مفر من تحمل نتائجه. خطأ وإن تسبب بألم كبير، إلا أنه كَتب النهاية لمسيرة في اتجاه مُظلم، وكما قلنا.. لا بد من خيبات الأمل لأنها صفعاتُ القدر التي توقظنا من الأوهام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.