شعار قسم مدونات

كوريا التي رأيت

blogs كوريا الجنوبية

في مطار إنشتون الدولي استقبلتنا شمس غاربة وبرودة تحت الصفر، هي المرة الثالثة التي أزور فيها كوريا الجنوبية ولا زلت أندهش من نظام المطار الفائق الترتيب وسرعة الاجراءات ودماثة أخلاق الموظفين لكن مالم يشعرني بالدهشة هو الاجراءات الاستثنائية التي أخذت أعتاد عليها بصفتي عربي، فالعربي متهم باللجوء دائما حتى يثبت العكس، في هذه الزيارة كانت أسئلة كثيرة تعصف بذهني على رأسها هذا السؤال القدري. لماذا تنجح كل خطط التنمية في شتى بقاع الأرض وتفشل عندنا نحن بالذات؟ وما سر تلك المعجزة في هذا البلد الذي صنف في العام ١٩٥٣ كأفقر دولة في العالم؟

 

تلك المعجزة التي أديرت وتحققت بخطط خمسية بالغة الدقة والصرامة فقفزت معدلات التنمية لديها بمتوالية هندسية، معجزة الدولة التي تجاوزت كل خيبات الماضي ونهضت من تحت ركام الجوع والعوز والاحتياج لتصبح رقم واحد وليس واحد مكرر في تصدير تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات وغيرها من الصناعات المتميزة. دولة تصالحت مع أعدائها التقليدين وفي مقدمتهم اليابان حين رأت في المصالحة مصلحة، واكتفت بتمثال لسيدة مكسورة الجناح تطل على السفارة اليابانية في إشارة إلى مئتين ألف امرأة اغتصبن على يد القوات اليابانية قبل استسلامهم المهين في الحرب العالمية الثانية. التاريخ الكوري لا ينبئ بسر إعجازي خاص، تاريخنا هنا في الشرق أثقل من هذا التاريخ. إذا ما السر؟

 

من خلال ثلاث زيارات لكوريا أستطيع استباق الإجابة، أنه الإنسان لحمة هذه المعجزة وسداها، فالإنسان الكوري لديه طاقة هائلة من دماثة الأخلاق، هادئ دائما ومتواضع كراهب بمعبد في أعالي الجبال ولديه صبر على العمل كصبر المتصوفة، والكوري غالبا لا يعمل لسد احتياجاته فقط، العمل هنا قيمة بحد ذاته، والعقل الجمعي يشترك لديه في حالة اللاوعي أن الفرد من أجل المجتمع دون السقوط في فخ الايديولوجيات الفارغة، الكوري أيضا مستعد لفتح علاقات الود الإنساني بلا تطفل ولا إزعاج، السيدة العجوز التي تدير فندق الدرجة الثالثة الذي نزلت به كانت تقرع باب غرفتي وتناديني بهدوء إجيبسياااااان وتعطيني بأمومة بعض حبات الفاكهة وترحل بخفة الكائن الذي كان.

 

السر الأكبر الذي يمكن التعويل عليه في مسألة النهضة الكورية هو التزام النظام، فأنا لم أرى بلدا تقدس النظام ولا شعب يلتزم به مثل الشعب الكوري، نظام المرور هناك بالغ الدقة والصرامة لا يمكن أبدا مخالفة هذا النظام
المتاحف مرايا البلاد

تقرأ البلاد من متاحفها الوطنية، أنها تختزل كل إجابات الأسئلة للعابرين وتعطيها لهم دفعة واحدة فتتشرب في ساعات معدودات روح المكان، في المتحف الوطني الكوري ترى كيف صنع الكوري عبر التاريخ على مهل، يستعرض المتحف فنون الصناعات الكورية التقليدية المختلفة، منها نماذج لأنوال صناعة الكتان وبعض الحرف التقليدية وآليات فنون الزراعة التي لاحظت أنها لا تختلف كثيرا عن طرق الزراعة لدى إنسان وادي النيل وحضارة بلاد الرافدين، تتشابه نفس الأدوات، المناجل والمحاريث وطرق الزرع والحصاد والقطف

 

وعبر محاكاة بالتماثيل شديدة الدقة ترى أيضا تقاليد الزواج التاريخية التي تلمح فيها هذا الكم الهائل من الاحترام بين العائلات المتصاهرة، وقد أتى المدعون جمعيا بأزياء العرس التقليدية التي تشبه أرواب الحرير للنساء وأرواب الكتان للرجال، هذا الزي وغيره من الأزياء التقليدية اختفى تماما للأسف في الشارع وحل محلة الأزياء العصرية.

 

في المتحف أيضا ركن ليس بالصغير لطريقة صنع الكيمشي وهو نوع من المخلل يصنع من الكرنب ويقدسه الكوريون كوجبة شعبية لم يكن يؤكل غيرها في سنوات الجوع والصبر وليالي الشتاء الطويلة القاسية، هذا النوع من المخلل يصنع بطرق عدة يتفنن فيها الكوري، والكرنب لا يقتصر دوره على الكيمشي فقط بل يدخل تقريبا في غالبية الطعام الكوري الذي يعتمد بشكل رئيسي أيضا على السمك والأرز الذي يصنع بطريقة السلق فقط وتضاف إليه بقية المكونات حسب الطلب، وجبات صحية ذات سعرات حرارية منخفضة ساعدت في رشاقة الأجسام وخفتها.

 

قرى هانوك

على أطراف العاصمة سيئول وتحديدا على بعد ٢٥ كيلو متر تقع قرى هانوك إنها بقايا قرى أو نماذج للقرى الكورية القديمة التي لازالت تحتفظ بطزاجة الريف والحياة الريفية، حيث أغلبية بناء البيوت بالخشب والتي تتميز بسقف مخروطي الشكل من أجل مياه الأمطار التي لا تتوقف تقريبا طوال العام وتبلغ ذروتها في الأشهر الأخيرة من الصيف، البيت الريفي يتمتع بنظام تدفئة فريد عبر أنابيب فخارية توضع بمسافة معينة تحت أرضيته ويمر عبرها الهواء الساخن القادم من فرن المطبخ، البيت التقليدي يدهشك بتخففه من بهرجة الأثاث، غرف النوم لا أسرة فيها مجرد فراش على الأرض الخشبية وغطاء، والبيت بارد صيفا دافئ شتاء، تتقابل فيه الغرف وتنفتح علي حديقة صغيرة.

 

النظام سر الأسرار

السر الأكبر الذي يمكن التعويل عليه في مسألة النهضة الكورية هو التزام النظام، فأنا لم أرى بلدا تقدس النظام ولا شعب يلتزم به مثل الشعب الكوري، نظام المرور هناك بالغ الدقة والصرامة لا يمكن أبدا مخالفة هذا النظام سواء للمارة أو المركبات، الغرامة صارمة وفورية، بالطابور هناك يحيا الإنسان، المترو بطابور، القطار بطابور، الباص بطابور، البلد يدار بطابور آلي يجعل سير الأمور أقل تعقيدا وأكثر يسرا.

 

الحريات روح الأسرار

الحرية والديمقراطية تفتح أبواب الإبداع والابتكار، والمكتسبات الديمقراطية حصل عليها الشعب الكوري بالصبر والعناء ودفع ضريبة ذلك من دماء أبنائه، لذلك هو غير مستعد للتفريط ولا التنازل ولا التسامح عن تلك الاستحقاقات بعد الخلاص من النظم الديكتاتورية المتعاقبة على الحكم، ففي العام ١٩٧٩ تم اغتيال الديكتاتور بارك شنغ -الذي لا ينكر الكوريون بالمناسبة بعض أفضاله الاقتصادية وتحويل كوريا من دولة زراعية إلى دولة صناعية- بعدها صعد للحكم تشون دون هوان مستغلا حالة الفوضي وعدم الاستقرار ليحكم البلد بقبضة من حديد ونار، هذه القبضة القمعية أدت إلى اندلاع شرارة الكفاح من أجل الديمقراطية تمثلت في ثورة العام ١٩٨٠والتي لم تستطع تحديد كل أهدافها الديمقراطية إلا في العام ١٩٩٣ وبشكل نهائي علي يد الرئيس كيم هيونغ سام الذي أعلن بوضوح في خطاب شهير إن الديمقراطية هي ثمرة الدماء التي سالت في هذا البلد

 

المركز الاسلامي بحي إيتاون الذي يعد المركز الأكبر لتجمع المسلمين هناك يعكس أطياف العالم الإسلامي المتنوعة تفصح عن ذلك فسيفساء الأزياء الإسلامية التي يرتديها مسلمون عرب وأفغان وباكستانيون وأتراك وهنود وفرس

هذه الحالة من الديمقراطية الكوري غير مستعد للتفريط في أي من مكتسباتها تحت أي دعوى ولو كانت حماية الوطن من العدو الشمالي المتربص، هذه المكتسبات أيضا هي التي مكنت الشعب الكوري من محاكمة رئيسة البلاد بارك كون والحكم عليها بربع قرن في قضايا فساد تمر هنا بشرقنا التعيس مرور الكرام.

 

الحريات الدينية

كوريا بلد لا دين رسمي له، ومع ذلك حرية الأديان مكفولة ومصانة بنص الدستور، تقول البيانات الرسمية إن ٥٣٪ من الكوريين يؤمنون بمختلف الأديان لا يفرقون بين أحد منهم، ويوجد بكوريا حسب الإحصائيات الرسمية ٥١٠ دين منهم البوذية بتعدد مذاهبها سواء البوذية التبتية أو البوذية الصينية، والكونفشية أيضا لها حضور ملحوظ، كما أن الإرساليات المسيحية والكنائس الإنجيلية لها وجود لا تخطئة العين يتمثل في كثرة الكنائس التي تعمل بالمجال الخدمي المجاني.

 

كذلك يتمتع الإسلام والمسلمون البالغ تعدادهم حسب آخر إحصاء ب١٠٠ ألف نسمة باحترام الدولة ويبلغ تعداد مساجدهم ب٦٦ مسجد في عموم أنحاء كوريا، وتمارس حرية اقامة الشعائر بدون تضيق. المركز الاسلامي بحي إيتاون الذي يعد المركز الأكبر لتجمع المسلمين هناك يعكس أطياف العالم الإسلامي المتنوعة تفصح عن ذلك فسيفساء الأزياء الإسلامية التي يرتديها مسلمون عرب وأفغان وباكستانيون وأتراك وهنود وفرس إلي جانب عدد قليل من مسلمي كوريا الأصليين.

 

المركز الذي بني عام ١٩٧٦ بتمويل سعودي يقدم خدمات الذبح الشرعي والزواج والطلاق ومراسم الدفن ومراسم الاحتفالات بالمناسبات الدينية المختلفة، لكن يأسف المسلمون هناك لأن الخدمات التي يقدمها المركز محدودة، وكانوا يأملون أن يلعب المركز دورا أكبر من هذا بينما يتعلل مسؤولو المركز بقلة الامكانيات ومحدودية الدخل.

 

في المساء الأخير

في المساء الأخير لي على الأرض الكورية كنت أجر حقيبتي واستمتع بمشهد الشوارع التي بدأت تكسوها ندف الثلج المتساقطة، بعين المغادر وفي عمق المشهد الليلي كنت أتامل الميدان بتفاصيله التي لن يراها سوى العابرون، طفل علي كتف والدته يبتسم ويشير إليك، ولد وبنت في طور الصبا يمران متشابكي الأيدي، زوجان يهمان بمغادرة الشارع ورب الأسرة يحتضن طفلته من البرد، مصابيح الإضاءة تراها وأنت تغادر أشد خفوتا مما كانت عليه، وقت المغادرة بطيء وثقيل يجعلك تتأمل الحركة الاعتيادية في الشارع صامتا، ولاحقا سيتوقف زمن الذاكرة الخاص بك عند تلك اللحظة وكأن الطفل المبتسم على يد والدته لن يكبر ورب العائلة العابر بالشارع لن يشيخ ولن تكبر ابنته وسيظل العاشقين كما هم صغيرين ووديعين، تلك اللحظة هي وحدها ما سيتبقى في الذاكرة كأنه لا شيء تغير بعد رحيلك، ستظل توصف تلك اللقطة بعين فوتوغرافية بحته، أنت المتحول وهم الثابتون أنت المغادر بأثر الفراشة وبشعور المتصوفة تستشعر أنك حصلت على التلقي وعرفت السر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.