شعار قسم مدونات

صديق طه حسين الذي أودت به الأيام إلى الجنون!

blogs طه حسين

ما أشبهَ اليوم بالأمسِ، عبارةٌ تترددُ كثيرًا في الأوساط العربية وعلى ألسنة مثقفيها الحالمينَ عبثًا بغدٍ أفضل، أمثالُ صديق طه حسين الذي سئمَ حاضرهُ وتطلعَ إلى غدٍ أفضل. أراد أن يتخلصَ من ماضيه الذي قضاهُ في جبة بدويّ، ثم في زي موظف حكومي وطالب علم، يزدري كل شيء، ولا يعجبه أي شيء في القاهرة وجامعها وجامعتها، ومدرسّيها، بل حتى شوارعها وشواعرها لا تثير إعجابه.

 

هذا الصديق، الذي لا يذكر طه حسين اسمه في كتابه "أديب"، لكنه يصفه ويُبالغ في وصفه ووصفِ شخصيته؛ غليظَ الصوت، سيء النبرة، صوته الغليظ كان مصدر إزعاج للطلبة، يزعجهم عنوة ويشتت تركيزهم في محاضرات الجامعة. كانَ توَّاقًا لكلِّ ما هو جديد، مُغاليا في التجديد، يستاء من التقاليد البالية ومن الدروس القديمة، كما يستاء من لباس طه حسين، حيث خاطبه في بدايةِ تعارفهما بعبارات صريحة؛ "أحب أن تلقي عن رأسك هذه العمة الثقيلة التي تضطرك إلى وقار لا أحبه لك، وأن تخرج من هذه الثياب.. فأنتَ في آخر ليل الطفولة وفي أول فجر الشباب" صفحة 24. كان قبيح الشكل والجسم ولعل إدمانه على الكتابة والقراءة، وإسرافه في الإنحناء على الكتاب هما اللذان شوها قده.

   

عرفه مُصادفة في حرم جامعة القاهرة، وكرهه في البدءِ كرهًا شديدًا، رغم أن صاحبه كان يعرفه حق المعرفة وبينهم ذكريات مشتركة، وكيف لا وهو الذي نشأ في بيئته ودخل منزلهم مع إخوته بل ودرسَا في نفس الكُتّاب، وكان بإمكان طه حسين أن يتذكره هو الآخر منذ أول وهلة لو أنَّ حاسة البصر أسعفته. ومنذ لقائهم الأول عقدا اتفاقًا على أن يتولى طه حسين مهمة تعليم المنطق، وصديقه يعلمه الفرنسية، لكن دائما الحياة تبرع في معاكسة أحلامنا الوردية، لأن أصحابنا لم يتعلما من بعضهما لا فرنسية ولا منطق، بل كانا يقضيان أطراف النهار وأشطر من الليل في لغو متصل لا ينتهي ولغط متواصل لا يهدأ، يتحدثون حينا عن كل شيء وأحيانا كثيرة عن الهجرة وسبلها، بتحمسٍ شبابي صوَّبا سهام تفكيرهما على قبلة حضارة الغرب، التي انبهرا بها وأصابا هدفهما ولو في أوقات مُتباعدة.

 

توالت الأيام وصاحبنا منساق بكامل وعيه في عالم الشهوة والرغبات الشبقية. إلا أن هدأت حرب فرنسا مع ألمانيا والتحق به طه حسين في دفعة جامعية أخرى فوجده حبيس المصحات النفسية، بعدما خسر والديه وزوجته ومستقبله العلمي

"أديب" هو كتاب للأديب المصري طه حسين (1889-1973) يضم العديد من المذكرات والرسائل التي كان يُرسلها إليه صديقه سواء من داخل مصر، أو من باريس إلى القاهرة، أو من باريس إلى مونبلييه حينَ انتقل طه حسين بدوره للدراسة بفرنسا، هذا العمل يجمع بين شخصيتين محوريتين، هما الكاتب وصديقه الأديب، الكاتب شخصية مثالية، مُجدة، رزينة ومحافظة، وشخصية "الأديب" شخصية مثقفة تجيد كتابة الشعر والنثر لكنها عابثة أنانية، ظالمة للزوجة، ناكرة للجميلِ ومُتنكرة للأصل.

 

فالكاتب والشخصية يتناوبان على مسار الحكي، وبذلك تتداخل في هذا الكِتاب سيرة غيرية بأخرى ذاتية، فهي سيرة غيرية يتناول من خلالها الكاتب حياة صديقه الأديب وأبعادها النفسية والاجتماعية، وسيرة ذاتية لأنها تتحدث أيضا عن بعض محطات حياة الراوي (طه حسين) أو الذات الكاتبة، وتستحضر بعضا من تجاربه الذاتية، كاستحضار القرية والأزهر وباريس، والإشارة إلى عمى الكاتب واستعانته بخادمه الذي كان يقرأ عليه ويرافقه.

  

ويتحدث فيه طه حسين عن صديق له أديب كما يبدو من خلال العنوان، أديب يقرأ كثيرًا ويكتب كثيرًا، لكن انبهاره بحضارة الغرب، عادَ عليه بويلات كثيرة، طلق زوجته لأن الجامعة وضعت العزوبية كشرطٍ أساسي من أجل الترشح لمباراة البعثة العلمية التي كانتْ سترسلها لاستكمال التعليم بفرنسا، كفر بنعمتها وجحدَ بجميلها وهي التي أحبته وقبلت الزواج منه بعدما رفضنه أخريات بسبب دمامته وقبح خلقه.

  

هكذا وقع الطلاق وودع والديه اللذان لم يرضيا على سفره… فهاجر إلى فرنسا وفور وصوله إلى مرسيليا في أول ليلة له بالفندق سقط في بوتقة اللذة وشهوة الخمر والأجساد الرطبة التي لا تنظر إلى شكل الشريك كما يفعلن الأخريات، حينما رأى فرنند افتتن بجمالها الباذخ وبشكلها، هامَ بها فارتمى في أحضانها، وعندما التحق بباريس أمضى سنواته الأولى في الجد وأظهر تفانيا ملحوظًا وتفوقًا محمودًا في التحصيل العلمي لكن سرعان ما لبَّى نداءَ جسده الشرقي فَتقاعس عن دروسه الجامعية وغضّ طرفه عنها، وغرق في وحل المسكرات والاستمتاع الشبقي من جديد، مع شقراء باريسية تُدعى إلين.

 

توالت الأيام وصاحبنا منساق بكامل وعيه في عالم الشهوة والرغبات الشبقية. إلا أن هدأت حرب فرنسا مع ألمانيا والتحق به طه حسين في دفعة جامعية أخرى فوجده حبيس المصحات النفسية، بعدما خسر والديه وزوجته ومستقبله العلمي. فأصبح يُخيل إليه أشياء لا وجود لها في الواقع، فسدَ عقله واضطرب تفكيره فأصبح يتمثل لهُ أن فرنسا تمكر به مكرا خبيثا بل الحلفاء كلهم يمكرون به واجتمعوا من أجله وأجمعوا على نفيه إلى المغرب، لأنه ألمانيا وليس مصريا، فكان يكتب إلى طه حسين صديقه، وإلى أساتذته في السوربون عن هذا الموضوع لكنه لم يتلق أية إجابة منهم لأنهم كان على علمٍ بجنونه ولوثة عقله، كما كان طبيبه على يقينٍ تام باستحالة شفائه.

 

شخصيا تستهويني قراءة أعمال قامات الأدب العربي كما تستهويني بشكل خاص أعمال طه حسين صاحب كتاب أديب، هذا الكتاب قرأته في سن مُبكرة جدًا وأعدتُ قراءته قبل شهور وأنا أقرأ في صفحاته خيل إليّ أنني أقرأ الحاضر لا الماضي، فلا زالت الأوطان العربية تعاني من ظاهرة الهجرة بكل تلاوينها، ولا زال شبابها يرى الساحل الأوروبي من نفس المنظور الذي رأى منه صديق طه حسين حضارة الغرب، فهناك من يهاجر من أجل التحصيل العلمي فينجحَ في ذلكَ كما هو شأن طه حسين، وهناك مَن يهرب مِن واقع أليم ويهاجر باحثا عن مستقبل أفضل على الساحل الآخر فيسقط في غواية الشهوة وينسى كل قيّم الشرق كما وقع مع الأديب أو بمعنى آخر لا زال هناك صراع بين الشرق والغرب، صراع بمعناه المعنوي وتمايز بين مستويين مختلفين؛ مستوى الحاجة والانحطاط، ومستوى الإشباع المادي والعلم المتقدم والرقيّ.

  

مرت عقود عديدة على صدور هذا الكتاب وما زال الغرب يسبقنا في الاقتصاد ومظاهر التحضُّر. فالغرب كما صوره الكِتاب، بلاد المادة وأرض الأحلام المُؤَجلة ويتمظهر هذا في الصفحة 42 من كتاب أديب، حيث يقول الكاتب متحدثًا عن صديقه الأديب؛ "أصبح أشد الناس بغضا لديوانه وزهدا في عمله، ورغبة في أن يهجر مصر ويعبر البحر إلى بلد من هذه البلاد التي يطلب فيها العلم الواسع والأدب الراقي، وتتغير فيها الحياة من جميع الوجوه". فعلًا ما أشبه اليوم بالأمس، وما أفيد الأدب!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.