شعار قسم مدونات

بين الأنا السرية والأنا المعلنة

blogs تأمل

كل إنسان منا يعلم عن نفسه أشياءً ويجهل عنها أشياءً أُخر، وربما علم الآخرون عنه أكثر ما يجهله عن نفسه، ولكن كيف هذا؟ كيف لإنسان أن يجهل أموراً عن نفسه التي بين جنبيّه، نفسه التي يصْبح معها ويمْسي؟ فيا ترى من هو حقاً؟ هل هو ما يحاول جاهداً أن يظهره للناس؟ أم ما تقرأه الناس وتعرفه دون أن يدري؟ ولماذا يهتم بالناس أصلاً؟ هذا ما سنحاول أن ندندن حوله في هذا المقال.

  

قد يتبادر إلى ذهن البعض من العنوان تسائل مفاده: هل الأنا أناتين؟ وهل يكون ذلك إلا إذا كان انفصاماً؟ الانفصام كلمة مبالغ فيها ولكن هذه حقيقة الأمر، فلدى الإنسان ظاهر وباطن –كما هو معلوم- ولكن إنسان عصرنا أشتد الافتراق بين ظاهره وباطنه بشكل متدرج خَفِيَ عليه فهو في غفلة مقيتة، فهنالك "أنا سرّية" يحاول إخفائها وهنالك "أنا معلنة" يحاول إظهارها، الأنا السرية: هي كل ما يتعلق بحقيقتنا البشرية من جهة النقص والضعف الأنا التي تكره وتحقد وتتعصّب وتخاصم وتفكر بالإيذاء والانتقام.

  

الحل لا يكمن في المزيد من التعويض والمبالغات في الأنا المعلنة ولكن في الاقتراب أكثر فأكثر من مصدر ألمنا الحقيقي وجذر المشكلة برمتها وهي الأنا السرية، وقضاء وقت أكبر معها والاستماع إليها، قضاء وقت أكبر مع الأنا الضعيفة غير الكاملة وتقبلها كما هي

الأنا السرية التي تحزن وتقلق وتخاف، التي تنحصر حركتها بحثاً عن الأمان والقبول، وهي الأنا الأنانية والضحيّة والحسّاسة التي جاهدنا وتكلّفنا في إخفاءها حتى لا يعرف الناس عنها بينما اختفت كلية حتى عن أنفسنا نحن وما عدنا نعرف عنها شيئاً كأنّا وضعناها في السّراديب وأغلقنا عليها الأبواب، وأما الأنا المعلنة: فهي الأنا التي تدعو للسلام والتسامح وتساعد الآخرين وتدعو للتعاون وهي الأنا المغرمة بإظهار موهبتها وجمالها وحتى تدينها ولا تتأخر عن فعل الخير أما الناس والكاميرات، وهي الأنا المبتسمة البالغة السعادة التي تسافر وتغامر ولا تتوانى في نشر سعادتها صوراً لحظية ثابتة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

 

ربما يقول البعض وما الجديد فهذا هو دَأبُ الإنسان، أقول نعم لو لم يكن بين "الأناتين-السرّية والمعلنة" جدار أصم، أفقد التواصل الصحي والسّوي بين الإنسان وذاته التي أنكرها وأعدمها حقيقة لا مجازاً، وآثر العيش بالظاهر والمظاهر فقط، بينما في داخله نفسٌ تئنُّ وتستغيث ولكن بلا مجيب لها، فأصبحت الأنا المعلنة كالمهرج الذي يرسم على وجهه ضحكة عريضة ويُضحِك الناس بينما هو يبكي، وهذا يفسر لماذا لا نستطيع أن نخلو بأنفسنا لعدة دقائق فسرعان ما نهرع للاستئناس بالأخرين حتى لو كنّا لا نحبهم، وإذا اضطررنا للوحدة سنحاول أن نشغل أنفسنا بالهاتف أو بسماع الموسيقى أو فعل أي شيء كل ذلك حتى لا ندع فرصة للأنا السرية التي ننكرها أن تخرج وتشكو لنا معاناتها.

 

فلا عجب من الآن فصاعداً من مشاعرنا غير المفهومة بين الحين والآخر والتي نحاول التعويض عنها بالمبالغات في تمثيل دور السعداء والسعادة والحب الظاهرين وتصدير ذلك للآخرين عن طريق الأنا المعلنة على شكل صور لحظيّة ننشرها أو التبسم عند لقائنا مع الأخرين أو الإعلان عما نملك من أمور مادية كل ذلك تعويض لإخفاء ما نعشر به من الكآبة والوحدة والقلق، وأيضاً للحصول على القبول والاهتمام من الناس وللفت انتباههم لكي نعشر بوجودنا.

 

هكذا نحشد كل قُوانا وإمكانياتنا للحفاظ على الصورة التي نريد أن نظهر بها أمام الآخرين "الأنا المعلنة" ولا نهتم لحقيقة أنفسنا "الأنا السرية"، وهنا تكمن المعاناة لأن التمثيل والتظاهر لا يعني شيئاً ومفعوله مؤقت وليس دائم ومن ثم نعود لألمنا ووحدتنا التي لا تزول إلا بمزيد من الإفراط والمبالغة في التعويض في كل أمر وتصديره عبر "الأنا المعلنة" ولكن بعدها ننتكس مرة أخرى، ولكن هل من سبيل للخروج من هذه الدوامة؟ وهل هنالك نهاية لهذه المعاناة وهذا الانفصام؟ وكيف ينتهي هذا الاغتراب المقيت عن الذات؟

  

الحل لا يكمن في المزيد من التعويض والمبالغات في الأنا المعلنة ولكن في الاقتراب أكثر فأكثر من مصدر ألمنا الحقيقي وجذر المشكلة برمتها وهي الأنا السرية، وقضاء وقت أكبر معها والاستماع إليها، قضاء وقت أكبر مع الأنا الضعيفة غير الكاملة وتقبلها كما هي وأن نتفهّم بشريّتنا ومخلوقيّتنا، حينها ينْهَدّ ذلك الجدار الأصم الذي يحول بيننا وبين فهم ذواتنا والتوصل معها، ومعرفة ما نحتاج إليه من باب الضرورة قبل معرفة ما نرغب به من باب التّرف. فإزالة هذا الجدار تصالح مع الذات وعدم إنكار ما نحن مجبولون عليه كبشر مخلوقين من الخير والشر، وهذا ليس مدعاة للسير وراء الشر والاستسلام له بل فهمه وتقبله ومن ثم التعامل معه بالتزكية والنهوض بالنفس لما هو أسمى من المعاني الروحية والترفع فوق كل ما هو دنيويّ زائل وكل مظهر زائف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.