شعار قسم مدونات

موقف الأقليات من الثورة السورية

blogs الثورة السورية

في حوار مع صديقي المسيحي الذي اتخذ موقف معاد للثورة السورية مبررا موقفه بالخوف على ملّته من الثورة ومما ستفعله بهم إن هي انتصرت واستلمت زمام الأمور، كانت إجابتي له مفعمة بالتغني باللحمة الوطنية التاريخية بين المسلمين والمسيحيين وطرحت عليه سؤال ظننت وقتها أنني افحمته به. السؤال كان كيف أنتم اليوم مسيحيون سوريون بعد قرون طويلة من الحكم السني للمنطقة قبل مجيء الأسد!

 

صديقي المسيحي الذي لم ينل قدر جيد من التعليم فهو حرفي لم يكمل دراسته الإعدادية، ارتبك وأجابني بأنهم تعرضوا للاضطهاد خلال حكم المسلمين السنة للمنطقة دون أن يورد أي تفاصيل أو حوادث تؤيد ادعاءه.  في الحقيقة إنني اليوم أنظر لسؤالي هذا كأحد أكبر الحماقات التي ارتكبتها في حياتي، كما أن إجابته كانت دافع لكي أعود لتاريخ المنطقة وما شهدته من حوادث عنف طائفية على الأقل بين المسلمين والمسيحيين، وحتى لا أغرق في سرد تاريخي طويل منذ دخول المسلمين إلى المنطقة والدخول في جدال المسميات بين غزو وفتح، اكتفيت بتركيز بحثي على التاريخ القريب للمنطقة التي تشكل اليوم ما يعرف بسورية وما شهدته من حوادث أليمة شكلت أحد أهم الركائز التي تنطلق منها الأقليات في تعاطيها مع الشأن العام في الوقت الراهن.

 

بداية لا بد من التنويه إلى أن ما سيرد ذكره في هذه المقالة لا يتعدى مجرد الإشارة لحوادث تاريخية حدثت بالفعل ولا يرقى ليكون بحث علمي أو توثيق تاريخي لما يتطلبه ذلك من شروط موضوعية واستفاضة طويلة والتي لا يمكن لمقالة رأي أن تستوفي شروطه، ومن بالغ الأهمية كذلك القول بأن الهدف من الإشارة لتلك الحوادث هو التعرّف على أسباب انكفاء الأقليات عن المشاركة في الثورة السورية لاسيما بعد الانحراف الخطير والقاتل الذي أصاب بوصلة الثورة بعد أن قام مجرم الحرب بشار الأسد بإطلاق العنان لأمراء الحرب من قادة الجماعات الإسلامية لاستلام زمام الأمور في المناطق الثائرة، هذا الانحراف الذي غذته العوامل الذاتية الموجودة في المجتمع السوري من انجراف وراء الخطاب الإسلاموي المتطرف.

 

الهدف من الإشارة لتلك الحوادث التاريخية ليس اجترار ذكريات الماضي القريب أو التبرير بأي شكل من الأشكال للمذابح التي ترتكب اليوم بحق المدن الثائرة والتي وقعت في غالبيتها العظمى بحق المسلمين السنة
قومة حلب 1850

هي مجزرة بدأت في 16 أكتوبر تشرين الأول من العام 1850 وقد وصفت بأنها أحداث عنف طائفية بين مسلمي حلب ومسيحييها. علاوة على شح المصادر التي تتحدث عن المجزرة فإن تلك المصادر تختلف اختلافاً كبيراً في تحديد أعداد ضحايا المجزرة فمنها من ذكر أن عدد الضحايا قد بلغ أربعة عشر ألف شهيد ومنها ما يذكر أكثر ومنها ما يذكر أقل ومن أكثر المصادر تفصيلاً في أحداث المجزرة كانت رسائل القنصل البريطاني إلى صحيفة التايمز البريطانية، والثابت من مصادر متقاطعة أنه تم نهب الأحياء المسيحية وحرق قسم كبير منها علاوة عن حرق عدد من الكنائس والأديرة وقتل عدد من رجال الدين المسيحيين واللآلاف من أبناء الطوائف المسيحية بالإضافة إلى جرائم اغتصاب واسعة بحق النساء في تلك الأحياء، ونجم عن هذه الأحداث في وقت لاحق هجرة عدد كبير من مسيحيي حلب إلى بيروت ومناطق أخرى، ولازالت أحداث هذه المجزرة ماثلة في مخيلة مسيحيي حلب دافعة إياهم إلى التخوف من أي فلتان أمني قد يترتب عليه أحداث مشابهة.

 

مذبحة دمشق 1860

وهي أعمال عنف طائفية ارتكب فيها مجموعة من مسلمي دمشق السنة أعمال عنف شنيعة بحق المسيحيين الآمنين في دمشق. بدأت أحداث المجزرة في التاسع من تموز لعام 1860 وبلغت ذروتها في اليومين التاليين واستمرت آثارها ما يناهز الأسبوعين. وعلى الرغم من أن المصادر التي تحدثت عن المجزرة أكثر مما هي عليه في قومة حلب إلا أن هناك تضارب واضح في أعداد الضحايا ووصف أحداث المجزرة، وقد ذكرت أحد المصادر أنه قد قتل في المذبحة ما بين 5000 – 11000 وبعضهم قضوا بسبب الحرائق واغتصبت أكثر من 400 امرأة ونهبت كل البيوت والمحلات والكنائس والأديرة والمدارس والبعثات التبشيرية واحرقت جميعها. وتحول حوالي 1500 – 3000 بيت و200 محل إلى ركام. وسَلِم حوالي 200 – 300 بيت من الحريق لأنها كانت قربية من بيوت المسلمين، لكنها لم تسلم من النهب. ودُمِرت 11 كنيسة و3 أديرة. وقتل حوالي 30 كاهناً و10 مبشرين. وقد ترتب على وقع المذبحة هجرة عدد كبير من مسيحيي دمشق إلى بيروت وأوربا، وظلت المذبحة وصمة عار في تاريخ دمشق الحديث لا يمكن إغفال ما نجم عنها من شرخ عميق بين سكان المدينة وفقدان للثقة.

 

مما لا شك فيه بأن لكلتا الحادثتين أسباب قريبة وبعيدة ليس أقلها تدخل القناصل في شؤون أقليات المنطقة التي كانت خاضعة لاستبداد الدولة العثمانية والتي كانت تسمى بالرجل المريض في ذلك الوقت، إضافة إلى تقاعس عمّال السلطنة عن اتخاذ التدابير التي كان من الواجب القيام بها لمنع قيام تلك الأحداث ناهيك عن الحروب الطائفية التي سبقت تلك الأحداث في لبنان، إلا أن الحقيقة الواضحة والثابتة بأن مسلمي أهم مدينتين في سورية قاموا بأعمال عنف فظيعة بحق المسيحيين الآمنين من سكان حلب ودمشق. هذه الأعمال وفي كلتا المجزرتين وقعت على أثر رفع قبضة استبداد السلطنة العثمانية لأيام قليلة عن فرض الأمن بالقوة والبطش.

 

من بالغ الأهمية أن نفهم بأن الهدف من الإشارة لتلك الحوادث التاريخية ليس اجترار ذكريات الماضي القريب أو التبرير بأي شكل من الأشكال للمذابح التي ترتكب اليوم بحق المدن الثائرة والتي وقعت في غالبيتها العظمى بحق المسلمين السنة من سكان سورية، وإنما الهدف منها تسليط الضوء على التعامي الأحمق عن حساسية المسألة الطائفية في سورية والتغني الغبي بشعارات اللحمة والأخوة الوطنية بين الطوائف السورية على اختلافها، ما سبب التغاضي عن تشخيص الأمراض الطائفية في المجتمع السوري والتي يشكل الاعتراف بوجودها والمكاشفة للحقائق التاريخية المسببة لها خطوة أوليّة ولازمة لعلاجها وإبرام عقد اجتماعي جديد بين مكونات المجتمع السوري لا يشوبه الغبن ولا التعامي، ذلك العقد الذي يجب أن يبنى على مبادئ المواطنة والمساواة الكاملة والحقيقة بعيداً عن التغني بالشعارات الخاوية.

 

كل الدول الغربية تعي تماماً بأن بشار الأسد مجرم حرب وهي ليست بحاجة لخطابات المعارضة التي تستعرض جرائمه

لقد فشلت النخب المثقفة للثورة السورية كما المؤسسات التي تنطعت لمهمة القيادة السياسية للثورة في التعامل مع هذه المسألة الحساسة، ولم تطرح في الحقيقة أي تصور واقعي أو حلول عملية لحالات الفوضى والانفلات الأمني التي ستترتب بالضرورة على أي سقوط محتمل لنظام القتل الطائفي المجرم، تلك الطروحات التي كان من الممكن لها أن تطمئن الأقليات وتجذبهم إلى ضفة الثورة وخاصة أن المزاج الشعبي العام في الثورة محتقن إلى حد الثمالة بسبب أعمال القتل الطائفي التي يرتكبها النظام والمليشيات التابعة له بحق أبناء الطائفة السنية على وجه التحديد،

 

وعوضاً عن إيجاد الخطط والحلول اللازمة راحت تلك النخب تسرح في مخيلة الدولة الفاضلة التي تنشد قيامها على أثر سقوط النظام رغم أن الغالبية العظمة من عسكر الثورة ترفض تلك الأشكال الفاضلة لسورية ما بعد النظام وتصرح جهارا نهاراً بأن الدولة الإسلامية هي البديل الحتمي لنظام القتل الأسدي. بالطبع فإن هذا البديل لم ولن يستهوي أقليات هي خارج حسابات تلك الدولة الإسلامية على أقل تقدير، مالم يكن مآلها الطبيعي مواطنين من درجة ثانية. هذا بالنسبة للأقليات في المجتمع السوري أما الدول العظمى القادرة على دعم الثورة فلم تجد أيّة جهة لديها تصور واقعي وخطط عمليّة لمرحلة ما بعد سقوط النظام، ناهيك عن عدم وجود ضمانة حقيقية لقيام الدولة الديمقراطية المنشودة على المدى الأبعد.

   

لعل ما أنف ذكره يساعدنا قليلاَ في تسليط بعض الضوء على الموقف السلبي الذي اتخذته الأقليات من الثورة السورية، ويدعونا بجدية لتجاوز خطاب الرومانسية الثورية ويحتّم بإلحاح تغيير منهجية المؤسسات السياسية في التسويق لقضية الثورة السورية أمام المحافل الدولية، فكل الدول الغربية تعي تماماً بأن بشار الأسد مجرم حرب وهي ليست بحاجة لخطابات المعارضة التي تستعرض جرائمه، فتلك الدول على دراية أكبر من معارضتنا بما يرتكبه الأسد وحلفاؤه من فظائع بحق الشعب السوري.

  

إن ما نحتاجه في الوقت الراهن هو صياغة استراتيجيات وخطط عملية قابلة للتنفيذ ورؤى واقعية تراعي تعقيدات الوضع السوري من تضارب صارخ للمصالح الأجنبية في سورية واحتقان أشبه ببركان على وشك الانفجار في الشارع السوري تسببت به ثماني سنوات من القتل الممنهج وأربعون عاماً من سموم الاستبداد بما تحتويه من تغذية مدروسة ومقصودة للنفس الطائفي في المجتمع السوري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.