شعار قسم مدونات

ما بعد الخليج والشرق الأوسط وما قبل الطوفان

blogs مجلس التعاون الخليجي

شهد العقد الأخير (2008-2018) في دول الخليج نمطا غير مسبوق من التنمية، وخاصة العمرانية، ولكنه أيضا قدم حزمة متناقضة من التحولات الاجتماعية والتساؤلات الوجودية والإشكاليات المحفزة عن حاضر ومستقبل الهوية الوطنية للدول الخليجية. إن مشاهد العقد الأخير وخاصة تداعيات العام الماضي التي تبلورت في حصار غير مسبوق بين دول تنتمي جغرافيا، عروبيا، إسلاميا، عقائديا واجتماعيا، أحدث تمزقا جليا في تماسك الطرح التقليدي للهوية الخليجية التي ارتكزت لعقود على مجموعة من الثوابت والمتغيرات ولكنها جميعا تضافرت في إطار النسيج المعقد لهويات السياق الخليجي. تتمزق قضية الهوية في العالم العربي وفي المجتمع الخليجي بين فكرة المواطنة والانتماء المكاني وبين المرجعية الدينية إسلامية التوجه وفكرة الانتماء الروحاني الأيديولوجي.

ومن ناحية أخرى ننبه إلى أن الأمة العربية ومكونها الخليجي استهلكت جزء كبير من طاقاتها في طرح تساؤلات عن ماهية الهوية ولمن ننتمي ومن نحن وحاصرتنا مصطلحات الأصالة والمعاصرة والثابت والمتحول والمحلي والعالمي والمرتبط والمنفصل حصارا خانقا أهم تداعياته يتجلى في حالة التشوش والارتباك. المواطنة أيضا هي إطار فكري وجودي يرتبط بالانتماء للمكان والإحساس بقيمة الماضي والتطلع إلى المستقبل. ولا تستقيم المواطنة في مجتمع مختل التوازن يفقد المواطنين فيه حقوقهم أو بعض حقوقهم لأسباب أيديولوجية أو طائفية أو دينية أو أثنية، فالقاعدة الأساسية التي تقوم عليها المواطنة هي المساواة التامة.

المراقب للأحداث في العامين الأخيرين يوثق بوضوح تصدع فيما عرف بالهوية الإسلامية لدول الخليج والشرق الأوسط، وخاصة مع وصول دونالد ترامب لعتبات البيت الأبيض

على صعيد أخر، فإن حتمية قدوم عصر ما بعد النفط لا يرتبط فقط بانخفاض أسعاره ولكن بتحوله إلى سلعة غير مطلوبة وبالذات مع التطور المتنامي في وسائل الطاقة الجديدة والمتجددة. تلك الوسائل التي وصلت إلى النقل الجوي حين تحركت أول طائرة تعمل بالطاقة الشمسية في جولة حول العالم وبدأت الخطوة الأولى من رحلتها الطويلة منطلقة من مدينة أبو ظبي إلى مدينة مسقط ثم عادت إليها بعد دوران حول العالم ولمدة قرابة 500 ساعة طيران بدون استخدام قطرة واحدة من الوقود. دراسة هذه الأنساق بلورت استنتاجا مهما وهو أن طبيعة ديناميكيات سوق النفط ستجعل سعر البرميل يستقر عند 55 دولار. هذا السعر كارثي لأنه لا يكفي لتعويض العجز الهائل في ميزانيات كل دول الخليج. من هنا بدأت بعض دول الخليج في اتباع سياسات غير مسبوقة منها الإجراءات التقشفية في الإنفاق أو البدء في تفعيل بعض التطبيقات الضريبية.

  

هذه الاجراءات ستحدث مستويات من التردد والارتباك للطبقات المهنية المحترفة العاملة في دول الخليج، وخاصة مع فقد المزايا المالية التي تبرر في المقام الأول القدوم للعمل في الخليج. الإشكالية الأكبر هي تحول النظرة الاستراتيجية نحو دول الخليج من دول مسئولة عن امدادات جوهرية بالنفط وبالتالي يلزم حمايتها إلى مجرد دول تملك أرصدة مالية متعاظمة يجب استنزافها واستغلالها في أسرع وقت. وهذه الحقائق هي ما تجعل دول الخليج أمام تحدي وجودي له خيارين الأول يعني الاستسلام الكامل لاستراتيجيات القوى الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي استنزاف مواردها ومدخراتها أو أن تستفيق وتبدأ في تفعيل كل برامج التنوع الاقتصادي والتنمية المستدامة التي تتجاوز مرحلة اقتصاد الموارد ومفاهيم الدول الريعية. لذا يمكن لنا أن نستنتج اقتراب حقبة جديدة وانتقالة نوعية في التركيب المفاهيمي لإشكالية الهوية والتحولات الاجتماعية في دول الخليج تركز على صياغة "مفهوم ما بعد الهوية" وهو مفهوم يقدم بديلا توافقيا مستقبليا يتجاوز الاستغراق في الاستهلاك التقليدي لطرح مفهوم الهوية بين المحددات الاجتماعية والاجتهادات الدينية.

الهوية الإسلامية: الاختبار الأخير

الإسلام هو دين يطرح تصوراً شمولياً للوجود، ومنطق للحياة يُشكلها مجموعة من القيم والمبادئ المتماسكة. وهو دين جوهره يتجاوز الطقوس، وينطلق إلى عوالم الإيمان العميق والتأمل والفلسفة وإعمال العقل والتجديد والتفكير ومسئولية الأطروحات الحضارية والثقافية المستمرة. ولذا فإن ممارسة الإسلام تنطلق من الطقوس إلى آفاق المساهمة الحضارية والثقافية، وتقديم الاطروحات المبدعة للإطار الزمني الذي نعيشه. الإسلام دين لا يتعلق فقط بالأيمان المجرد، ولكنه شديد الارتباط بالأفعال والوجود والتعامل المتجدد مع الحياة. الأكثر خطورة هو اكتشاف تداعي الرابط العقيدي المشترك بين أطراف الأمة الإسلامية.

المراقب للأحداث في العامين الأخيرين يوثق بوضوح تصدع فيما عرف بالهوية الإسلامية لدول الخليج والشرق الأوسط، وخاصة مع وصول دونالد ترامب لعتبات البيت الأبيض. لمزيد من التيقن نتأمل لغة الأرقام وتأثيرها على الأولويات الخليجية والعروبية والإسلامية. في مايو 2017 استدعى دونالد ترامب زعماء العرب والإسلام لحضور ما سمي "القمة العربية الإسلامية الأمريكية" تحت شعار "الحزم يجمعنا" وذلك في مدينة الرياض عاصمة السعودية. حضر أكثر من خمسين زعيم عربي وأفريقي وإسلامي بأنفسهم وانتهت القمة بالإعلان عن حصول ترامب على أكثر من أربعمائة مليار دولار على شكل تعاقدات تسليح للمملكة السعودية.

 

الخليج ومن بعده إقليم الشرق الأوسط كله أمام تحدي وجودي حقيقي فيجب أن تحدث اليقظة ورسم خارطة قيم ما بعد الخليج النفطي الثري المبعثر إلى خليج منتمي إلى شرق أوسط حر عادل

والجدير بالذكر هنا أن فور وصول ترامب لبلاده صرح أن الزعماء المجتمعين أخبروه أن دولة قطر هي ممولة الإرهاب وأعطى لهم الضوء لحصارها الذي بدأ في 5 يونيو 2017، ولسخرية القدر في نفس اليوم الذي هزمت فيه الجيوش العربية من إسرائيل في ساعات محدودة، عام 1967. من جانب آخر، وفي نهاية عام 2017، دعا الرئيس التركي أردوغان زعماء العالم العربي والإسلامي لإنقاذ القدس بعد إعلانها عاصمة أبدية لإسرائيل وتفعيل قرار نقل السفارة الأمريكية إليها. وباستخدام لغة الأرقام، فقد حضر الاجتماع خمسة عشر زعيم عربي وإسلامي فقط وكان حضور معظمهم احتفالي بروتوكولي. والواقع أن قراءة الموقف العربي الخليجي الإسلامي في هذا السياق الخاص بضياع القدس يؤرخ أيضا لبداية حقبة جديدة تجعل حتى فقدان أو الاعتداء على المقدسات الإسلامية لا يحرك القادة العرب والمسلمين كما أنه لا يحرك الشعوب المحاصرة المأزومة المسحوقة بعد هزيمتها في الربيع العربي حين نادت بالحرية والكرامة والعدالة.

ما بعد الهوية: الهوية الديناميكية وليس الهوية الانتقائية الجامدة

إن حصر الهوية الخليجية فقط في أهل الخليج المواطنين المحليين هو فعل مقدر له الانتهاء ويدفع إلى مصير مقلق لكل دول السياق الخليجي. ولذا فإن حقبة ما بعد الهوية هي في صميم مفهومها، تمثل هوية جديدة ولكنها ديناميكية ترفض مجرد وجود مجتمع من اللا منتمين المقيمين لفترات زمنية تعاقدية طالت أم قصرت. عمران "اللا منتمي" هو طرح تناولته بصورة تفصيلية في عدة أوراق بحثية، والصياغة اللفظية مرجعيتها حالة اللا الانتماء التي يوصف بها مئات الألوف من الأجانب والمقيمين في مدن الخليج الذين ينتمون انتماءا سلبيا مؤقتا لتلك البلاد على الرغم من بقائهم لسنوات طويلة تصل في بعض الحالات إلى عدة عقود دون أن يستشعر إي أحاسيس بالانتماء الحقيقي مما ينعكس على علاقته بالمكان واهتمامه بقضايا الهوية والمواطنة ومستقبل البيئة حوله. هناك أيضا اعتبارات لها علاقة بالتركيبة الاجتماعية والثقافية فالاقتصاد المعرفي، البديل الأنسب لاقتصاد النفط، حتى ينمو ويزدهر يحتاج إلى طبقة متوسطة. وفي دول الخليج خاصة فان تلك الطبقة شبه معدومة حيث يتحول المجتمع إلى ثلاث شرائح ظاهرة المواطنين الذين ترعاهم الحكومة رعاية كاملة تشمل المسكن والتعليم والصحة بل والترفيه والرياضة ثم شريحة المقيمين المطلوبين لتقديم الخبرات الفنية والتقنية والأكاديمية والمهنية وأخيرا قطاع متضخم من العمالة ذات القدرة الفنية المحدودة.

 

ولذا فإن التوجه نحو صياغة مدن الخليج كمدن معرفية متعولمة يشترط وجود موزاييك بشري متلون الأديان والأعراق والأجناس من العقول المبدعة والمفكرة والمنتجة للمعرفة، ومن ثم فان حديث الهوية والانتماء بمعناها العرقي القبلي أصبح طرحا غير ملائما ان لم يكن معوقا لتصورات التنمية المستقبلية في الخليج. هنا تبرز قيم المواطنة والتسامح وقبول الآخر وإدراك أن تلك التركيبة المتباينة في بنية سكان مدن الخليج هي إمكانية تنموية هائلة وليست تهديدا لمفاهيم محدودة وغير صالحة لعلاقة الإنسان بالمكان ومفاهيم الانتماء في عصر عمال المعرفة وبزوغ الطبقة المبدعة.

إن الخليج ومن بعده إقليم الشرق الأوسط كله أمام تحدي وجودي حقيقي حين تتلاشى القيمة الريعية وتسقط القيم الإنسانية والروحانية وتتداعي المرجعيات الدينية فيجب أن تحدث اليقظة ورسم خارطة قيم ما بعد الخليج النفطي الثري المبعثر إلى خليج منتمي إلى شرق أوسط حر عادل متنور ثري بالمعرفة استيعابا وانتاجا. إذا لم تحدث هذه اليقظة فان أمواج الطوفان التسونامي على الخليج وعلى الشرق الأوسط كله تقترب وتقترب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.