شعار قسم مدونات

برد تشرين وحقيبة طفل لم يكبر

blogs - snow

عبثاً كنت أحاول التحايل على أمي عندما كانت توقظني من نومي في الصباح الباكر، لشراء الخبز من المخبز غير القريب عن مكان بيتنا. كنت أتظاهر بالنوم العميق تارةً، وبالمرض تارةً أُخرى؛ لترسلَ أحد إخوتي الغارقين بالنوم بدلاً مني، لكن ما كانت هذه الحيل لتنطلي على أمي التي تعرفني أكثر من نفسي.

ففي أيام تشرين قارصة البرودة كنت أخوض حرباً شرسة بين فراشي الدافئ وبين رياح تشرين الباردة المصحوبة بالأمطار الغزيرة العنيفة أحياناً. ورغم كل ذلك إلا أنني كنت أخرج مُرغماً تحت وطأة التهديد بالعقاب الشديد والحرمان من مصروف المدرسة الذي كان قريباً إلى قلبي. كنت وقتها أمشي في الردهات ورياح تشرين القارصة تصفعني من كل صوب، وحبات البرد تنهال عليًّ ضرباً باليمين والشمال، والبخار الكثيف كان يغادر فمي مسافراً بلا رجعة إلى المجهول، وقتها كنت أُحدث نفسي غاضباً: ما ذنب هذا الجسد الصغير الغض حتى يحتمل كل هذا العذاب؟!

كبرنا يا أمي لنعرف أن الواسطة منهج حياة، والمحسوبية ثقافة والظلم عبادة والإقصاء سياسة والانحراف حضارة والرذيلة إبداع والإجرام شجاعة.

فمياه الأمطار كانت تنساب على شعري المشبع بحبات المطر غاسلةً وجهي الشاحب المنكمش ببرودتها القاتلة. كنت وقتها أرشف من هذه المياه الجارية على وجهي ما استطعت كلما مرت على شفاهي المزرقة، حتى لا تطال المياه ملابسي المبللةُ أصلاً، لكنه التفكير الطفولي البريء الذي دفعني لمثل هذا الحل السخيف! إلا أنني كنت أواصل المسير مُثقل الخُطى، راسماً على صفحات وجهي المنهك، ابتسامة مهزومٍ في وجه منتصر. كنت أسير على جنبات الطريق ببطيء شديد حَذَرَ الانزلاق، بسبب الجليد الصلد الذي افترش وجه الطريق، مُحاولاً سرقة بعض الدفيء من خيوط الشمس التي كانت بالكاد تشق طريقها نحو الأرض مُعلنةً الحرب على برد تشرين القارص، لكن هيهات هيهات.

وقتها وعندما كنت أقترب من المخبز، بعد عناءٍ وجهدٍ كبيرين، كنت أشعر بنشوةٍ كبيرةٍ ولحظةَ فرحٍ عارمة تجتاح أشلائي المنهكة والتي كنت عبثاً أحاول لملمتها، فرائحة الخبز الشهية كانت تشق طريقها بكلِ عنفٍ بين حبات المطر المنهمرة ورياح تشرين الباردة إلى أنفي الصغير الذي لونتهُ حُمرة قانية، ليبدأ الجوع وقتها صراعه الشرس مع معدتي الخاوية التي أرهقها البرد والتعب. أما ذاك الدفء المنبعث من نار الفرن الحارقة، فقد كنت شديد الحرص على أن أجمع منه ما أستطيع لأوزعها بالعدل على أشلاءِ ذاك الجسد الغض الذي أعياه البرد والتعب، مُحاولاً دَبَ الحياة في ذاك الجسد الميت ولو للحظات قليلة.

لأخوض بعدها معركةً من نوع آخر بيني وبين الخباز الذي تجمهر على باب مخبزه العشرات من الزبائن، الذين بالكاد كنت أصل لنصف سيقانهم الضخمة الباسقة، وبالكاد أيضاً كنت أصل وبعد وقوفي على أطراف أصابع قدمي لبسطة الخبز الخشبية المُغطاة بسجادة الصلاة. حيث كان الخباز يقف خلف تلك البسطة الخشبية مُختالاً بوقفته والجماهير أمامه، تنتظر منه مكيال خبز.

كنت وقتها آخر المغادرين من المخبز، بسبب حدث سني وقصر قامتي، وكان من يأتي بعدي بكثير يأخذ خبزه قبلي بحجة "بدي رغيف خبز للفطور تمشاية!" وسط غمزات متبادلة بين الزبون والخباز، وبقدرة قادر يتحول رغيف الخبز (التمشاية) إلى أرغفة كثرة ملقاه فوق بعضها البعض، يتصاعد منها دخان أبيض جميل اللون، متحدياً برد الشتاء، فرائحة الخبز الشهية الزكية كانت تقتحم بعنف أسوار أنفي المغلة بلفائف الصوف، وقتها كنت ألوذ بالصمت محتسباً أمري إلى الله، لأني حتى وإن تكلمت مطالباً بحقي بالدور فلن يسمعني أحد، ولن ينصفني أحد حتى صاحب الفرن نفسه.

كبرنا ولا زلنا نقف على ذات المخبز، ولا زالت حقوقنا تُهضم، ولازالت ذات الغمزات بين الزبون والخباز مُستمرة، لكننا هذه المرة لم نصمت ولكن لم يسمعنا أحد ولم يُنصفنا أحد، وربما لن يسمعنا أحد ولن ينصفننا أحد. كبرنا يا أمي لنعرف أن الواسطة منهج حياة، والمحسوبية ثقافة والظلم عبادة والإقصاء سياسة والانحراف حضارة والرذيلة إبداع والإجرام شجاعة. أليس هذا قهر؟ أليس هذا ظلم؟ كلاب تأكل اللحم وفقراؤنا يموتون جوعاً دون ذنب!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.