شعار قسم مدونات

الحرب اللبنانيّة تحت مجهر "الدويري"

BLOGS الحرب الأهلية

منذ 17 تشرين الأوّل ومفردات الحرب الأهليّة تتردد على مسامعي في الساحات والشاشات، في الجلسات العائليّة والنقاشات الاجتماعيّة. كلّها تستعيذ من أن تُخيّم علينا لعنة الحرب مرّة أُخرى. منها ما يُجري مقارنات بين اليوم والأمس، ومنها قصص تذكر بُغية الاتّعاظ. وسط هذا الذّعر، قررت أن أتعمّق في بحث علميّ عن الحرب التي خلّفت وراءها أزمات سياسيّة واجتماعيّة نعيش ارتداداتها حتى يومنا هذا. في إطار هذا البحث، وجدت فيلم "بيروت الغربيّة" للمخرج اللبنانيّ زياد الدويري، ليخرجني من جوّ سياسيّ بحتٍ إلى ما هو أكثر عاطفة وأهميّة. وهنا، أشارك معكم كيف شاهدت الفيلم. "بيروت الغربية" وضعني وجها لوجه أمام جزء من الذاكرة لطالما هربت منه. جعلني أخلع أقنعتي وأبكي. أبكي مع كلّ تفصيل يُشبهك ويشبهني، وعلى كلّ ما حصل أو يمكن أن يحصل. بحُبكة سلسة غير معقّدة، يروي زياد الدويري على لسان حُفنة من الأطفال كيف بدأت الحرب وماذا حملت في طيّاتها من تفشٍّ للفساد، التطرّف، التوتّر والضّياع.

يبدأ الفيلم بتمرّد الطفل طارق على مديرة مدرسته الفرنسيّة حين يصرّ على ترديد النشيد الوطني اللبنانيّ بدل الفرنسيّ، كأنّه أعلنها ثورة على الوصايات والسّفارات. أراد طارق استحداث هويّته اللبنانية، ممسكًا أول خيوط انتماءاته في هذا العالم قبل أن تبدأ الحرب وتشتّت اللبنانيين وانتماءاهم. ترديده للنشيد الوطني اللبنانيّ في مدرسة تقع في بيروت الشرقيّة مع زملاء من مختلف الخلفيّات، يُعطينا إجابة مُسبقة عن شكل الخلاص من حرب قادمة، خلاصٌ جسّده العم حسن لاحقا حين قال "مين ما سألك عمي طارق شو دينك، قلن أنا لبناني". عائلة طارق صغيرة متماسكة، لا تلبث الحرب أن تنقل إليها توتّراتها فتجسّد والدته "هالة" وجدان اللبنانيّ الباحث عن برّ أمان في الهجرة، في حين يعارضها زوجها "رياض" المتمسّك بالأرض. تتكرّر الجدالات بينهما حول الهجرة أو البقاء وهي نقاشات يكاد أن لا يكون قد خلا بيتٌ لبناني منها – حتى بعد انتهاء الحرب بسنوات.

أما عن أصدقائه المقرّبين مي -المسيحيّة- وعمر -المسلم-، فنرى من علاقة الثلاثة أنّ العنصريّة في بعض الأحيان هي قناع نجاة، يرتديه المواطن برهة لينجو من موقف ما ولا يمثّل قناعاته بالضّرورة. ظهر هذا بوضوح عندما خبّأ عمر الصّليب من رقبة مي كي لا يسبب لهم مشاكل مع المسلّحين في "بيروت الغربية". وليتأكّد من كفّ أذى المجنّد عنهما، احتمى عمر بلواء الدين وترديد "نحن كلنا مسلمين هون، من الغربية". أمام هذا الموقف، أستذكر قولا ل" ألبرتو مانغويل" يقول فيه "كلّما ضاق تعريف الهويّة، نما التعصّب". شتّان بين أطفال يوحّدهم النشيد الوطنيّ بانفتاح على الثقافات الأخرى وبين مسلّحين يفرّقون الشارع الواحد ويقسّمونه باسم الله والوطن.

في سياق الفيلم، نستنتج أنّ الدين، أو التطرّف في الدّين، قد يأتي نتيجة الخوف والفراغ أو بُغية الاندماج في بيئة معيّنة -أي يأتي نتيجة الحاجة للشعور بالانتماء وسط حالة من التيه. ولكن، لم يكن شدّ العصب الدينيّ وحده ما ازداد رواجا في الحرب. بل، وعلى المقلب الآخر، ظهرت "أم وليد" لتجمع قيادات شرقية/غربية في بيت دعارة. فالرذيلة كما الإرهاب، لا دين لها. رغم كلّ هذا، لم يذبل العنصر الإنسانيّ في الفيلم، إذ أنّه لم يخلُ من تفاصيل تغذّينا بالأمل وتجعلنا نردد "لو خليت خربت". من تلك التفاصيل علاقة الحب المتينة بين والديّ طارق التي يأويان إليها بعد كلّ خلاف، و"حقّانيّة" العم حسن الذي عندما اشتدّت أوزار الحرب، أرجح أهل الحيّ على المسلّح "أبو حنش" فدفع ثمن عدله، بالإضافة للكثير من التفاصيل الدافئة الصغيرة.

في "بيروت الغربيّة"، أدخل الدويري مقاطع مصوّرة من الحرب الأهلية- فأضفت مصداقيّة ولمسة من واقعيّة أرجعتنا بالزمن حوالي أربعين عاما إلى الوراء. هذا الفيلم الذي يشرّح لنا المجتمع اللبناني في فترة الحرب اللبنانية ينتهي برحيل أمّ طارق، فهل هذه هي ضريبة التمسّك بالأرض والانتماء لها؟ وهل تمثّلت الحرب منذ ذلك الحين بأشكال أُخرى كالحرب الاقتصادية والطائفيّة؟ ثمّ ما كان ليدحرها سوى ثورة على كلّ ما يفرّق الشارع اللبنانيّ؟ وهل يمكن أن تعود الحرب لتعيث في نفوسنا فسادا؟ كلّها أسئلة تُطرح، ويبقى الوعي الاجتماعيّ سيّد الموقف كي لا يُستدرج اللبنانيون إلى حرب أُخرى تُعيد لبنان قرونا إلى الوراء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.