شعار قسم مدونات

ماكرون والجبهة الداخلية.. هل هي النهاية؟

blogs ماكرون

إنها المرة الأولى تقريبا ومنذ فترة طويلة تتواجد فرنسا في حالة ضغط اجتماعي كبير جدا بالنظر إلى حالة الغليان التي تعرفها الجبهة الاجتماعية، بطبيعة الحال نقطة البداية كانت احتجاجات ما عرف بالسترات الصفراء والتي ما زالت مستمرة غلى غاية اليوم، كما أن طريقة تعامل النظام الفرنسي معها ومع مطالبها كان محفزا ليس فقط لاستمرارها وإنما لتوسعها أكثر.

حاليا الاحتجاج أصبح مركزا بشكل أكبر على سياسات إصلاح قانون التقاعد التي تتخذها الحكومة، ما قد يشكل تحديا كبيرا لها وقد يترتب عليه عواقب وخيمة على الاقتصاد الذي يعاني من صدمات الاحتجاجات الاجتماعية، كما أن الملاحظ من جهة أخرى هو توسع الإضراب ليشمل قطاعات أخرى حيوية على غرار وسائل النقل (السكك الحديدية والمترو الأنفاق)، التعليم، القضاء، الصحة، الطاقة، الأمن وعمال النظافة، استجابة لدعوات أطلقها الاتحاد العام للعمال، والقوة العاملة الفرنسية، والاتحاد النقابي الوحدوي المعني بالمهن التعليمية، وذلك بالتزامن مع دعوات لناشطين من حركة السترات الصفر، رفضا لقانون إصلاح التقاعد.

فيما يتعلق بمشروع القانون المثير للجدل الذي يطلق عليه قانون ديلوفوا، فهو مشروع قانون تقدم به وزير فرنسي سابق جون بول ديلوفوا، ويتضمن إصلاح قانون المعاشات التقاعدية، وينص على إنشاء نظام اشتراكي اجتماعي بالنقاط للحلول محل الاشتراكات السنوية، فضلاً عن رفع سن التقاعد الكامل من 62 إلى 64، مع الإبقاء على السن القانونية 62 لكن يحصل المتقاعد على معاش أقل، ويتم تخييره ما بين الانتظار للسن القانوني أو الحصول على معاش غير مكتمل، كما أنه من الجيد معرفة أن فرنسا حاليا تنفق حوالي 14 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على التقاعد، وهو من بين أعلى المعدلات في العالم، وهو رقم كبير جدا، بالنظر إلى وجود توقعات بأن يعاني النظام من عجز يتجاوز 17 مليار يورو، أو 0.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2025 إذا لم يحدث تغيير جذري. إذن من وجهة نظر الحكومة، قانون التقاعد الجديد من شأنه أن يحسن الأوضاع الاقتصادية نوعا ما، كما أنها ترى فيه أكثر عدلا إذا ما قورن بالنظام الحالي، مثلما سبق للرئيس ماكرون أن أشار إليه، حيث قال بان النظام القائم على النقاط سيكون أكثر عدلاً وبساطة و سيحسّن تمويل التقاعد مع تقدم العمر.

بالنظر كذلك إلى إصرار الحكومة الفرنسية على المضي قدما في سبيل ذلك وتعاملها العنيف مع المحتجين، أعتقد جازما أن هذه الأخيرة سوف تتراجع مجبرة لا مخيرة للتقليل من حدة الإضرابات التي سيكون لها تأثير كبير على الاقتصاد الفرنسي

تعتبر تقريبا من أصعب الفترات التي عرفتها فرنسا منذ مدة طويلة، ما بين جبهة اجتماعية ساخنة وغير مستقرة تماما، إلى جانب تنامي ظاهرة العنف بشكل كبير جدا، وهذا ما لاحظناه من خلال تعامل الأمن الفرنسي مع المحتجين بطريقة أقل ما يقال عنها أنها لا تمت بأي احترام لحقوق الإنسان ولا قيمه، عكس ما يتم الترويج له دائما على أنها دولة الحقوق والحريات والمساواة، أما بالنسبة للجبهة الخارجية فالأكيد أن فرنسا تدفع ثمن التدخل العسكري في مالي والذي إلى غاية الآن لم يحقق أهدافه المعلنة على الأقل، فلا الاستقرار عاد لمالي ولا التنظيمات الإرهابية تم تجفيف منابعها، إذن الأكيد أن كثيرا من الأمور أصبحت مكشوفة وواضحة بكون رعاية المصالح والأهداف أقوى بكثير من أي اعتبار آخر.

كما أن هناك رغبة في فتح نقاش عمومي يفسّر للفرنسيين جدوى وجود عسكريين فرنسيين في دول الساحل والصحراء، والذين تجب عودتهم حسب دعوات أطلقتها بعض الحركات السياسية، والتي أصبحت تطالب بعودة العسكريين الفرنسيين الذين تقدر أعدادهم بحوالي 4500 عسكريي. وما يعزز هذا الطرح بشكل كبير هو ما أكده الرئيس الفرنسي، من خلال استعداده لمراجعة كل صيغ تدخل القوات الفرنسية»، وهو ما فسرته وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورنس بارلي، في حوار لها مع صحيفة لوجورنال دي ديمانش، بأن كل الخيارات موضوعة على الطاولة، من أجل منح كل الفعالية لهذه العملية الكبرى ضد الإرهاب في الساحل.

أما بالنسبة لتهكم الرئيس التركي والأمريكي على الرئيس ماكرون فقد كانت كفيلة بخفض شعبية هذا الأخير وجعله في موقف حرج أمام الجبة الداخلية المتصدعة بالأساس، وأكثر من ذلك حينما تشير تصريحات الرئيس التركي مثلا للتعليق على ما قاله الرئيس ماكرون أن تركيا لا يجب أن تنتظر شيئا من حلف الناتو الذي يعاني من شلل دماغي، أنه من الأفضل أن تجيب فرنسا على الأسئلة التالية: ماذا تفعلون في مالي أو بمناطق أخرى في إفريقيا؟ وما الغاية من عملياتكم التي نفذتموها دون قرارات أممية؟

السؤال المطروح هو هل يعود هذا الوهن إلى ضعف النخبة التي تقود فرنسا اليوم أم إلى المتغيرات الدولية؟، نعتقد أن الأمر مرتبط بعاملين اثنين، الأول مرتبط بشخصية الرئيس ماكرون، وكلنا نعلم أنه لم يحظ بإجماع كبير حول خياراته السياسية بعدما عانى في سبيل الوصول إلى الحكم بعد منافسة شرسة مع الجبهة الوطنية بزعامة ماري لوبان، وبعدها طريقة تعامله مع الملفات الكبرى خاصة الاقتصاد والتقاعد، والخارجية، كلها أبانت ضعفا كبيرا مرتبطا بطريقة اتخاذ الخيارات وعدم الإصغاء للجبهة الاجتماعية التي تدفع نحو مزيد من الضغوط، ومن جهة أخرى لدينا العامل المهم وهو طريقة إدارة العلاقات الخارجية وعدم السير في طريق تعديلها بالشكل الذي يضمن مراجعة الاختلالات السابقة التي عرفتها في فترة حكم الرئيس هولاند، والدليل ما يحصل معها في مالي وما تتلقاه من انتقادات واسعة من قوى أخرى على غرار تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، وحتى بعض الدول الإفريقية التي تسير في نفس الطريق.

وبالنظر إلى الاستجابة الواسعة للإضراب العام وتوسعه على مجالات حيوية في الدولة، يمكن القول أن النقابات العمالية في فرنسا قد حسمت موقفها لصالح رفض مشروع قانون التقاعد بشكل كبير جدا، وبالنظر كذلك إلى إصرار الحكومة الفرنسية على المضي قدما في سبيل ذلك وتعاملها العنيف مع المحتجين، أعتقد جازما أن هذه الأخيرة سوف تتراجع مجبرة لا مخيرة للتقليل من حدة الإضرابات التي سيكون لها تأثير كبير على الاقتصاد الفرنسي الذي يعاني هو الآخر اختلالا كبيرا جدا، ولن يكون بمقدوره الاستمرار بنفس الوتيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.