شعار قسم مدونات

لا أشتاق في وطني إلا لرائحة القهوة

blogs قهوة

كانت النميمة قبل ثلاثين عاماً تعتمد اعتمادا كليا على فناجين القهوة الصباحية بين جارات الحي الواحد، تجلس النسوة صباحا عند من وقع على كاهلها عبء في الطعام أو الحياكة لمناسبة سعيدة أو حزينة، تتشابك أيديهن في العمل ويتناولن الغائبة في ذلك اليوم كوجبة دون ملح، إحداهن سمعت صوت صراخ من بيت أبو الرائد، لا بد أنه عاد لضرب زوجته صفية، لم ير أحد أبو الرائد يضرب زوجته، ولكن خيالات النسوة في الحي حاكت قصة كاملة، حتى أن البقال في اليوم التالي نظر إلى أبي الرائد بأسف وتهامس جميع من حوله في طريق عودته إلى المنزل.

  

ثم تطورت مع انتشار الهواتف الثابتة إلى محادثات ثنائية، ما إن يخرج رب المنزل إلى عمله، لتعلو أجراس الهواتف في المنازل بنغماتها الموحدة، ولتتبادل النسوة في الطرفين حصيلة اليوم السابق بأخبار موجزة ثم يُفصل ما يعتقد أنه الأهم، يناقش في هذه المحادثات المطولة أسرار وصفات الطعام، عروض التنزيلات، مشاكل الأبناء، عتب هنا، وفرح هناك، كلها مشاعر تتناقلها أسلاك الهواتف الأرضية، وتوزعها مقاسم شبكات الاتصالات.

 

لكن الطفرة التي ظهرت بعد انتشار الإنترنت، حصرت الأهالي في هواتفهم الثابتة، وربطت الجيل الصغير في أجهزة الحاسوب التي تمثل بالنسبة إليهم برامج التواصل عبر برامج الدردشة yahoo وHotmail، التي رسمت الفجوة الحضارية بين الأعمار المختلفة آنذاك، ثم ما إن ظهرت الهواتف الذكية والإنترنت اللاسلكي wifi وتطبيقات المحادثة الجماعية والفردية لتوحد الأجداد مع أحفادهم، لم تعد تشكل المسافات فرقا في علاقاتك مع عائلتك وأحبائك، بل أكاد أجزم أن مفهوم البعد والقرب في المسافات لم يعد له معنى.

 

لا أنكر نوبات الحنين التي تغزو قلبي من حين لآخر، في الوقت الذي أشعر فيه بالمرض قد أوهن جسدي، وأن الصورة لم تعد تكفي لتخفف الآمي التي أنهكت روحي قبل جسدي

حالياً أقطن بعيدة عن عائلتي وأصدقائي الالاف الكيلومترات، هل البعد يعني الوحدة؟ كلا أفتح عيني صباحاً لأجد أمي وخالاتي قد أرسلن على مجموعة العائلة على الواتس اب صورة لطائر يقف على الشجرة وقد كتب أعلى الصورة بخط أصفر أو أحمر صباح الخير، أو مقطع فيديو لفنجان قهوة على أنغام فيروز فأتخيل نفسي في القدس أتظاهر بالنوم صباحاً وأمي وجدتي تتحدثان بهمس. أعلم من تزوج ومن سافر، هذه طفلها مرض، وتلك زوجها يرغب بتناول المقلوبة على العشاء، أحاديث يومية اختصرت الكثير من الأوقات والمسافات. فلم يعد البعيد عن العين بعيد عن القلب مطلقاً، ثم إن العلاقات والأقارب لم تعد كما كانت سابقاً، طبعاً لا رائحة والدي تصلني ولا حضن والدتي، ثم إن أحاديث الشقيقات تبقى ناقصة دون أطايب أخر الليل.

 

لي صديقة انتقلت مؤخرا إلى إسطنبول، لا أظن أنني كنت مقربة منها إلى تلك الدرجة مسبقاً، هناك هموم مشتركة واستشارات نتناقلها عبر الفراغ، تسجيلات صوتيه تناقش كل شيء في الحياة، التطبيقات السريعة ناسبت سرعة حياتنا، أركض طوال النهار حول جدول مكتظ بالأشغال. وأشارك في نفس الوقت عبر هاتفي بإيجاز ما يحدث أو ما أخطط به لصديقة أخرى في رام الله.

 

لا أنكر نوبات الحنين التي تغزو قلبي من حين لآخر، في الوقت الذي أشعر فيه بالمرض قد أوهن جسدي، وأن الصورة لم تعد تكفي لتخفف الآمي التي أنهكت روحي قبل جسدي، أبحث عن يد حنونة تمسح على شعري فتذهب صداع الرأس، مرضت، ومن منا لا يشعر أنه منهك ومرهق، وكنت أبحث خلال تعبي عن حضن أرتاح داخله، أبث إليه كل خوفي وهواجس قلقي.

 

لا يكون الشفاء إلا بوالدتك تحضر لك صحناً دافئاً من الحساء، تتدلل عليه، فيقاوم جسدك المرض برائحته فقط فتشفى، أو بوالدك الذي غادر فراشه في منتصف الليل صيفا أو شتاء ليطمئن على نومك وحرارتك ويقرب أذنه من صدرك فيطرب على انتظام صوت نفسك، ومع هذا تبقى غربتنا الثقيلة على قلوبنا أحن علينا من وطن بارد على أبناءه، أظن أن الغربة لم تعد مفهوما حقيقيا اليوم، لا غربة في فضاء مليء بالإشارات الإلكترونية والوجوه الضاحكة، اليوم لا أشعر أني أشتاق لشيء في وطني إلا لرائحة القهوة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.