شعار قسم مدونات

أسعدوها وهي على فراش الموت.. الطبيب الإنسان!

BLOGS طبيب

في ليلة من ليالي مدينة بوسطن الباردة، دعت مؤخراً جمعية الطب الباطني Society of General Internal Medicine (SGIM) أطباء المدينة لمشاركة مواقف وقصص مؤثرة حدثت معهم في إطار عملهم. تم اختيار هذه القصص بعناية من قبل لجنة محكمة، ليتم عرضها بطريقة مشابهة لمؤتمرات تيدكس TEDx. أقيمت الأمسية في إحدى مطاعم المدينة بحضور ما يقارب سبعين طبيب. ومن بين القصص الثمانية التي تم اختيارها، شارك أحد الأطباء قصةً مؤثرةً، أحببت أن أشاركها هنا لما لمست فيها من عبرة لي كطبيب ممارس، ولبقية الزملاء الأطباء.

تم قبول مريضة مصابة بالسرطان لقسم العناية المشددة Intensive Care Unit (ICU) في إحدى مشافي مدينة بوسطن. حسب التقييم، فإن حالت المريضة الصحية متأخرة، ولا يوجد علاج لشفائها سوى المسكنات. بعد شرح حالتها الصحية، كانت رغبة المريضة هي الاستمرار في العلاج قدر المستطاع حتى تستمر في الحياة أطول فترة ممكنة لتستطيع حضور حفل تخرج ابنها من الجامعة، فهي تخطط لحضوره منذ زمن بعيد. تعاطف الطاقم الطبي مع المريضة ومع رغبتها، ولكن شرحوا لها عن حالتها المتفاقمة وأنها لن تستطيع حضور الحفل بسبب المرض. فإن استمرت المريضة في الحياة لتاريخ الاحتفال، فربما تكون بحاجة لأجهزة مراقبة ودعم لأعضاء الجسم يصعب اسطحابها لمكان الاحتفال. لم يكن وقع هذا الشرح جيداً على المريضة، وطلبت من الأطباء بذل كل ما في وسعهم لمساعدتها ومعالجتها لتحقيق رغبتها. فهي من جهة تدرك أن حالتها مستعصية، ولكن من جهة أخرى تحاول أن تصمد لأطول فترة ممكنة للاحتفال بهذا الحدث المهم لها ولكل عائلتها.

لكن أثناء هذه النقاشات بين المريضة وبين الطاقم الطبي، كان أحد أطباء العناية المشددة يعمل في الخفاء على تحقيق أمنية المريضة. قام الطبيب بالتحضير لتزيين غرفة المريضة، واتصل بابن المريضة للقدوم للمشفى بلباس التخرج، كما اتصل بعميد الكلية للحضور لتسليم شهادة التخرج للولد أمام الأم في المشفى. كانت ردة فعل جميع الأطراف إيجابية، واستجاب الجميع لهذه الدعوة. وحسب المخطط، حضر عميد الكلية والولد للمشفى وأجري الاحتفال بالتخرج وسط دموع الفرح والسعادة والفخر لدى الأم وكل الطاقم الطبي. وبعد عدة أيام توفيت المريضة وقد حققت أمنيتها.

مرض السرطان هو واحدٌ من أكثر الأمراض فتكاً للجسم. فإن تم اكتشافه مبكراً، يكون هناك خيارات عديدة للتعامل معه، ويمكن التخلص منه وحدوث الشفاء التام. ولكن إن لم يحدث ذلك، تتدهور صحة الإنسان بسرعة كما هو الحال في كرة الجليد المتدحرجة. وتختلف شراسة هذا المرض حسب نوع ومكان السرطان فعلى سبيل المثال؛ سرطان البنكرياس والطرق الصفراوية هو أحد أشرس أنواع السرطانات. ولكن على العكس من ذلك، فالمرضى المشخصين بسرطان البروستات يمكن أن يستمروا في الحياة لأعمار طويلة إن تلقوا العلاج الصحيح. لذلك يجب عدم التهاون بإجراء التحاليل والاختبارات اللازمة والضرورية للكشف المبكر عن السرطانات.

وبالعودة للقصة السابقة، نجد أنه وبالرغم من عمل هذه الطبيب في أكثر الأقسام حساسيةً وتعقيداً "قسم العناية المشددة"، لم يتخلى هذا الطبيب عن حسه الإنساني. فقد قام الطبيب بتحقيق رغبة الأم في آخر أيام حياتها بالتفكير بطريقة إبداعية creative thinking، ومن خارج الصندوق Out of the box. فالهدف أولاً وأخيراً هو إسعاد المريضة برؤية ولدها بلباس التخرج، ومشاهدة مراسم تسليم الشهادة من قبل إدارة الجامعة. فإن كانت الأم مريضة ولن تستطيع الحضور لمكان الاحتفال، قام هذا الطبيب بإحضار الاحتفال لمكانها. كما أن مرونة البيئة المحيطة في المريضة قد ساعدت في تحقيق ما جرى. فموافقة إدارة المشفى والطاقم الطبي على الاحتفال، واستجابة عميد الكلية للدعوة، قد ساعد كثيراً في نجاح المحاولة.

أخيراً، أود أن أقول أن الطب هو مهنة إنسانية أولاً وأخيراً، وقد ينسى كثير منا هذا المفهوم نتيجة ضغط العمل وكثرة الحالات الصعبة المشاهدة أثناء الحياة المهنية. وهنا أنقل ما ختم به الطبيب قصته؛ "المعرفة والخبرة الطبية لا تكفي لتقديم أفضل رعاية صحية للمرضى إن لم تقترن مع المواقف الإنسانية".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.