شعار قسم مدونات

هل أتاكَ حديثُ الفقد؟

BLOGS تفكير

في طفولتي، زارني أبي في مدرستي الابتدائية مرتين، كانت أولاهما حين حاول أستاذُ الفصل عقابي دونما خطأ فاضطررتُ لاستدعاء وليِّ أمري لحل المعضلة، أما الأخرى فكانت حين حللتُ ثالثًا في ترتيب أوائل الطلاب في النصف الأول من العام الأخير في المرحلة الابتدائية، وبّخني كثيرًا هذه المرة؛ لأنه كان يعتقدُ إلى هذه اللحظةِ أنّ هذه هي الطريقةُ الأمثلُ لتقويمِ ابنه الذي لم يفارق المركز الأول طيلةَ حياته، ولأنني لم أخيب ظنَّه أبدًا فقد حققتُ له ما أرادَ.. وحصدتُ المركز الأول في اختبارات آخر العام بعد سهرٍ وتعبٍ وكدٍّ متواصل، أذكرُ جيدًا ذلك اليوم حين أتيتُه مهللًا بخبر نجاحي، ثم ألمحتُ له بأنني غاضبٌ لطريقةِ نصحه الشديدةِ نوعًا ما.

تقاعدَ أبي على المعاشِ بعد اجتيازي الابتدائية، بلغَ الستين من عمره بينما أنا لم أتجاوز الثالثة عشرة بعدُ، بيني وبينه في تعداد العمرِ سبعةٌ وأربعون عامًا وخمسةُ شهورٍ، وبيني وبينه مليون عامًا من الحكمة والتأني وسلامةُ السريرةِ، أنا المتمردُ الثائر.. وهو الهادئ الحكيم، أنا المخبول المجنون.. وهو العاقلُ المُتزن، أنا المُتفلسفُ الناقمُ.. وهو القنوعُ اليقينيُّ الراضي بقضاء الله وقدره. حين تجاوزَ أبي السبعين هدأ تمامًا، زارَه المرض زيارة طويلةً وقاسية، ولأن أبي كريمٌ منذ نعومة أظافره.. لم يمتعض من زائره الثقيلِ، استقبلَه بترحابٍ هائلٍ، ثم سلَّمَه روحه بسهولةٍ كما عاش، في ليلةٍ باردةٍ من ليالي نوفمبر.. استحالتْ جحيمًا بألم الرحيل!

ماتَ أبي، دون أن يُودع رفقاء المسجد، ودون أن يلمس ترابَ شارعنا للمرة الأخيرة، حُمل إلى المستشفى قبيل غروب شمس الخميس.. ثم رجع جسده دون روحه قبيل حلول منتصف ليلِ الجمعة

عاشَ أبي على ظهر الأرضِ واحدًا وسبعين عامًا، دون خوفٍ من شئ أو قلقٍ من أي شئ، كان رضاه يبلغُه نجاحه الذي يتمناه، وكانت قناعتُه بفقره كنزه الذي أثراه بعزة النفس وكرامةِ المقصد. عاشَ يتيمًا، لكنَّه أظلَّ اليتامى والمساكين بجناحٍ من رحمة، ورحلَ دون أن يتأفف من طعامٍ قط.. مُخلدًا معاني الإنسانية كلها في تعاملاته مع أقرانه وجيرانه وأبنائه. كتبتُ كثيرًا عن فقد الأحبة واغتراب النفس وطولِ السفر، لكنَّ محبرتي جفَّت تمامًا حين مات والدي، كيف لا.. وقد انهارَ السندُ الذي اتكأتُ عليه طوال حياتي، دون سابقِ إنذارٍ، فأمسيتُ بعده في تيهٍ لا ينتهي!

المؤلمُ في الموت أنه فراقٌ أبديٌّ لا يعقبُه لقاءٌ ولو مُصادفةً، نتيجةٌ نهائيةٌ ليس بعدها إعادةُ تصحيحٍ، وليس ثمةُ ألمٍ يعادلُ ألمَ من قيل له: عظَّمَ الله أجركَ. المرعبُ في الموت أنّه يُلقيكَ وحيدًا في غياهب الجُبِّ بعيدًا عن رؤيةِ من تحبُ.. ومجالسة من تحب.. ومصاحبةِ من تحب.. ومناقشة من تحب، ثم يُرهقُ قلبك وعقلكَ بالكثير من الذكريات التي تنكأُ جرحًا لا يبرأ بداخلكَ كلما مرّ عليكَ طيفُ الحبيبِ وهو راقدٌ تحت التراب. ماتَ أبي، صابرًا شجاعًا مُحتسبًا، دون أن يحكيَ لنا كيف تحملَ مرضه الأخير، ودون أن يلقَى منا برًا يوفيه حقه علينا، ودون أن يراني مهندسًا مدنيًا أشيدُ للناس آمالهم وأرفع عنهم آلامهم وأحزانهم.

ماتَ أبي، دون أن أودعه الوداع الأخير، كنتُ في القاهرة، بينما هو يُصارعُ الموتَ دون أن أدري، أخبروني -سامحهم الله- أنه بخير، ظننتُ أنه بعافيةٍ من المرض.. لكنهم قصدوا أنه بخير من هموم الدنيا وأوجاعها وأسقامها إلى يوم الدين، حين التقيتُ جسده بعد الوفاة لم أكن قادرًا على البكاء، ذكرتُ وصيته لي مُنفردًا بأن أكون شجاعًا لمساندةِ إخوتي، أخبرني حينها أنه يراني كبيرًا ومقدامًا وجديرًا بتحمل المسؤولية، لكنه لم يخبرني كيف أحملُ جبلًا كان على كتفه لسبعين عامًا دون أن يتأوه مرةً واحدة!

ماتَ أبي، دون أن يُودع رفقاء المسجد، ودون أن يلمس ترابَ شارعنا للمرة الأخيرة، حُمل إلى المستشفى قبيل غروب شمس الخميس.. ثم رجع جسده دون روحه قبيل حلول منتصف ليلِ الجمعة، كأنَّه افتقدَ بيتَه الذي بناه بالحنين والدم.. وتجرَّعَ لأجله كل المرارة وعلقمَ الأيام. ماتَ الحبيبُ، دون أن يجرحَ أمي بكلمةٍ واحدةٍ، كان كريمًا إلى حدٍّ مُذهلٍ، لسانُه لا يقولُ إلا حلوَ الكلامِ، وعقلُه لا يفكرُ إلا في الإحسان، وقلبُه عامرٌ بالحب، لذا كان طبيعيًا أن يبكيَه الكبيرُ والصغيرُ.. والغنيُّ والفقيرُ.. والحجرُ والشجرُ.. وحبّات الرملِ والترابِ في شارعنا القديمِ.

في طفولتي، قلتُ لأبي ذاتَ مرةٍ: لماذا نحنُ فقراء! لم يُجبني، لكنه تركَ الزمن ونتوءات الأيام ونوائبَ الليالي تعلمني أننا أغنياءٌ جدًا بالعلم والمكانةِ وحب الناس والقرآن الذي حفظناه في قلوبنا بعد طول رعايةٍ منه، ثم رحلَ دون أن أخبره بأنني تعلمتُ الدرسَ.. وأنَّ الهائجَ الأرعنَ بداخلي ماتَ حين أخبروني عبر سماعةِ الهاتفِ بأنَّ الجبلَ الأشمَّ الذي حملَنا طوال حياتنا في مُعتركِ الحياة القاسي قد غادرنا للأبد.

أيها الراحلون إلى الدار الآخرة، أوصلوا لأبي سلامًا طيبًا وحنينًا لن يجفَّ إلى أن نلقاه، وأخبروه أنني ما تأخرتُ عنه قُبيل وفاتِه إلا لجهلي بحالته التي ساءت في غيابي، ثم قبّلوه عني قُبلةً.. وعن أمي الصابرةِ قُبلتَين، وليعلمَ أنني صليتُ عليه الجنازةَ كما أوصى.. وأننا صابرون على عهده.. وأنَّ ذكراه حيةٌ فينا إلى الأبد. في طفولتي، زارني أبي في مدرستي الابتدائية مرتين، ألا ليتَ الزمانُ يعودُ فيزورني ولو مرةً واحدةً.. ولستُ أغضبُ من توبيخه ولو لألفِ ألف مرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.