شعار قسم مدونات

نورة تحلم.. أن نهرب من واقع عنيف إلى حلم أعنف

blogs نورا تحلم

نورة إمرة تونسية متزوجة وأم لثلاثة أطفال، عاملة تنظيف في مستشفى تونسي، تعيش رفقة أطفالها في بيت يشبه الخرابة في حيّ شعبيّ وهو البيت الثالث الذي انتقلت إليه منذ سجن زوجها جمال. تسعى  نورة للطلاق من جمال بسبب غيابه التام وبسبب قصة حبها مع لسعد، الشخصيّة التي تجلب الضوء والراحة لحياة نورة، تبدو القصة عاديّة ومتداولة في عموميتها لكنّ المخرجة والممثلين جعلوا منها واقعا فعليا للمرأة التونسية المنتمية إلى الطبقة الفقيرة. المرأة المعنّفة في كل مكان وفي كلّ وضعية. فيلم عن العنف في كل لحظة من حياة المواطن التونسي.

    

العنف المسلّط من الرجل

الزوج: جمال زوج نورة يقضي أغلب وقته في السجن بينما هي تقضي أغلب الوقت في العمل كي تعيل ثلاثة أطفال وتذهب لزيارته كل أسبوع وإن تخلّفت عن زيارته يبدأ بلومها أو بشتمها، وحين يخرج من السجن في عفو رئاسي، فإن أوّل شيء يفعله هو ممارسة الجنس مع نورة بشكل عنيف ومقزّز ليخرج العنف من دائرة المرأة ويصبح موجها نحو الابن الذي يتقاسم معهم الغرفة وتقريبا الفراش. وفي مشهد ثان عنف لفظيّ (كلام بذيء) تجاه كلّ العائلة ثم عنف ماديّ حين يطردهم خارج البيت بلا معاطف في البرد.

  

شخصيّة جمال محكومة بعنف يطغى على أفعاله وأقواله تجاه الآخرين والذي نجح الممثل لطفي العبدلي في إبرازه بإتقان حتى من خلال تعبيرات الوجه والنظرات. ولأن لكل ظاهرة سبب ودون الدخول في التبريرات فإن كمّ العنف هذا المسيطر على شخصية جمال إنما هو ردة فعل على العنف الذي توجهه له الحياة القاسية والبيئة الاجتماعيّة الموجود فيها والطريق التي اختار المضي فيها: فرد من عصابة نشالين تصب مداخليها في جيب أمنيّ فاسد.

   

    

العشيق: فعل لسعد (حكيم بو مسعودي) كل شيء كي يقنع نورة بالمضي قدما في الهرب من بطش جمال والانفصال عنه. كانت كلّ حركاته تبين كم هو محب وعاشق لنورة بكل واقعها حتى يعود جمال فتبدأ الغيرة ويخير نورة بينه وبين زوجها وأولادها. كان لسعد الأقل عنفا تجاه نورة والأكثر حبّا وتفهّما ولذلك كان هو بدوره عرضة للعنف. عنف جمال بشكل قاس وتخلي نورة عنه بشكل أقسى حوّلاه بدوره إلى ضحية أخرى. عنف ولّد عنفا أعاده في شكل رفض قطعيّ لنورة والتخليّ عن هذا الحب الذي آذاه في كبريائه ورجولته عن غير قصد أو بقصد. فحين وجدت نورة نفسها تواجه جمال أنكرت حبها للسعد بل سلّمته لجمال وإن كان تحت تهديد الفضيحة.

  

رجال الأمن: لم تخرج الصورة التي قدّمها الفيلم عن الصورة النمطية في الأفلام التونسية ولا عن الواقع التونسي أيضا لمركز الأمن، فالمخرجة وضعت نورة بمفردها في مواجهة عنف رجال الأمن الماديّ واللفظيّ مند اللحظة التي اقتحموا فيها المنزل لاعتقال زوجها حتى مثولها في التحقيق، كأنها بذلك تبين المواجهة بين المرأة وبين عنف المجتمع بقوانينه وأحكامه وسلطته.

 

العنف المسلّط من المرأة

لعبت النساء دورا مهمّا في ممارسة العنف ضد المرأة بشكل عامّ غيّر أنّها في الفيلم كانت ظاهرة بشكل ناعم واقتصرت على ما هو رمزيّ. هند بوجمعة لم تحصر العنف في الرجل ضد المرأة أو العكس بل ركّزت على فكرة العنف ذاتها. فكلّ عنف هو ردّة فعل على عنف. زميلة نورة في العمل التي كشفت لجمال العلاقة السريّة بين نورة ولسعد، هي الأخرى كانت ضحيّة بدورها خاصة لعنف ابنها وابتزازه المستمرّ لها من أجل المال، أليس من العنف أيضا أن تكون مسؤولة عن مراهق أهوج يهدّد بالانتحار مستغلاّ أمومتها وكأنّها وككل امرأة ضحية استغلال لغريزتها. وإن لم يسمِّ القانون ولا المجتمع هذا النوع من الاستغلال عنفًا فإن ردّة الفعل الناجمة عنه ستكون عنيفة، وما يُنتج العنف فهو عنف.

   

المرأة في الجمعيّة التي تبنت قضية نورة كانت صورة مطابقة للمجتمع الذي يقيّم السلوك الفردي وفقا لأخلاق المجموعة وقواعدها، حاولت بشكل ناعم نصح نورة في علاقة بأبنائها: بأن لا تتخلى عنهم مقابل رجل رغم أنها أقرت في البداية أنّها مسكينة وهي في وضعية لا تطاق بزواجها من رجل مجرم ومع ذلك يجب أن تتريّث في الطلاق أولا وأن تتراجع عن هذه العلاقة الغرامية ثانيا باعتبار أنّ الرجل ككل الرجال سيستغلها جسديا ويتخلي عنها.

    

لم تكن نورة بالمرة امرأة خانعة خارج علاقتها بزوجها بل قويّة وعدوانيّة وشرسة سواء في علاقة بأبنائها أو عملها أو الشّارع أو حتى الجمعيّة لذلك أوقفت البنت الناصحة بلباقة ممزوجة بشراسة ثم بحزم قائلة: هذه حياتي أنا ما دخلك أنت؟ لترد العاملة بشكل بارد ومستفز يستبطن العنف ويعلنه:" إذا تدبري أمر كراء المنزل وحدك منذ الشّهر القادم." كما سبق وأن أخبرتها بشكل مباشر أنّ العقوبة الجزائية لهذا الحب هو خمس سنوات سجن لكليهما.

     undefined

   

لم تكن هذه الشخصية رغم ظهورها السريع الذي لم يدم سوى خمس دقائق إلاّ تكثيفا لكل العنف المسلّط على نورة. عنف المجتمع الذي يحاكم الفرد بمعايير متباينة مع الفعل: الأخلاق. فالمطلوب من المرأة أن تنسى أنها امرأة وتتذكر أنها أمّ فقط حتى ولو كانت شابّة. لا يحق لها أن تحب ولا يمكن أنّ يحبها رجل لكينونتها بل فقط جسد قادر على الإمتاع خاصة في وضعيّة نورة، مطلقة مع ثلاثة أطفال، مطالبة دوما بالصبر والغفران والتغاضي في علاقة بالزوج، وبمزيد من التحمّل والصمت في علاقة بكل ابتزاز وبكل حرمان، لكن لماذا تكون المرأة دائما هي هذا "الواحد" أو في أغلب الأحيان، وفي أحسن الحالات تنال التعاطف أو الاستحسان من هذا المجتمع الذي فرض عليها غصبا وكرها أن تكون هي رمز التضحية ولم يترك لها المجال لأن تختار، وحين تكون التضحية بالغصب والقوة فإنها تصبح عنفا وصاحب التضحية هو في الحقيقة ضحية.

  

حتى المقاومة في الفيلم هي عنف مرتدّ على الشخصيّة التي تحاول جاهدة أن تبقى ثابتة أمام التهديدات وأن تمشي بقوة وعنف في الشّارع الذي كان فارغا كلّما كان المشهد خارجيّا، يبدو كأنّ هذا الفراغ الذي حاولت نورة "هند صبري" ملأَه إيهاما بقوّتها وعدم خوفها من الضوء والمواجهة وهذا أيضا يبدو نوعا من العنف وجّهته كاميرا بوجمعة على البطلة حتى تملأ المشهد وقد كان فعلا أفضل المشاهد التي تقول دون كلمات باطن الشخصيّة. فهذا الامتلاء في المشهد يوهم بقوة وصلابة امرأة قادرة على أن تكون جمعا حين يغيب الجمع. لقد بدت هند صبري وكأنها تواجه نورة لكن من المؤكد أنها قدّمت المرأة التونسية الكادحة التي تواجه الواقع العنيف بصلابة تحميها من العنف وتمنحها الفرصة لتمارس عنفها الخاص تجاه ذاتها وتجاه الفضاء العام. ليس سهلا إطلاقا لا فنيا ولا واقعيا أن تملأ فضاء فارغا بحركة واحدة وهي المشي وتجعلها مساحة هائلة للفرجة وللتأويل.

 

ما يميّز فيلم "نورة تحلم" إجمالا أنّه يضعنا وجها لوجه مع الواقع، دون رتوش، دون مكياج ودون أحكام مسبقة، حتى حين ينتهي الفيلم نخرج دون أحكام أو مواقف من الشخصيات. فلا نقدر على تجريم نورة أو جمال أو لسعد ولا التعاطف معهم، في العادة نهرب من الواقع إلى الفن كي لا تقتلنا الحقائق لكنّ هذا الفنّ الذي ينتمي إليه فيلم "نورة تحلم" يقذف بنا لا أمام عبثية الواقع فقط بل أمام عبثية الحلم ذاته. كأنّ كل ما حدث مجرد حلم لكنّ نورة هي هي، نموذج عن المرأة التونسيّة المعنّفة داخل الواقع وداخل الفنّ، المرأة التي تقاوم في الحلم وخارجه من أجلها ومن أجل الآخرين.

 

هند بوجمعة التي صنعت فيلما عن قصة واقعيّة لامرأة تونسيّة لم تحاول أن "تجعل لنا الفن كي لا تقتلنا الحقيقة" بل جعلت من فيلمها الواقعي عنفا رمزيا حتى لا يبقى المشاهد خارج الحكاية ولم تحاول أن تجمّل الواقع ولا أن تنقذنا من عنفه اللّفظي والماديّ والرمزيّ خاصة فيما يتعلق بالأطفال بل وقفت محايدة لتقول هذا واقعنا العنيف ولأنّه كذلك فأحلامنا أشدّ عنفا، ولولا ابتسامة هند صبري/ نورة بعد الحلم لصرخنا في النهاية: يا للقسوة، لقد تسرّبت مرارة الواقع إلى أحلامنا. هذه الابتسامة جعلت كل العنف يتلاشى وشعاع صغير يبدد كل القتامة بأنه ثمة أمل، أمل صغير ما دمنا نقاوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.