شعار قسم مدونات

لبنان.. إعادة تصويب بوصلة الانتفاضة أصبحت ضرورية

blogs لبنان

هل فعلا "كلن يعني كلن"؟ بعد ما يزيد قليلا عن الشهرين على انطلاق الانتفاضة اللبنانية في 17 تشرين الأول الماضي، يبدو أنّ حساب الحقل لا ينطبق على حساب البيدر، لا سيما فيما يتعلق بتطبيق شعار الانتفاضة الأساسي. من الجليّ أنّ هذا الشعار الشامل، الذي يصوّب مبدئيا على كل الطبقة السياسية دون استثناء (يمكن للقارئ مراجعة التدوينة السابقة لكاتب المقال، بعنوان: "شعب ينهي عهد الشعبوية وحقبة لغة السلاح"، 29/10/2019)، تتهدّده الانتقائية في التجربة وفي تطبيقه الفعلي على أرض الواقع السياسي. وكي نقول الأمور بصراحة تامة ونسمّي الأمور بمسمياتها، هنالك شعور بدأ يسود في الطائفة السنية، بعد حوالي 65 يوما من بدء الانتفاضة، مفاده أنّ شعار "كلن يعني كلن" وقع في ازدواجية المعايير، وأنّه لا يستهدف عمليا إلا زعماء طائفة واحدة دون سواها، وأنّ الانتفاضة لا "تستقوي" إلا على طائفة معينة، في حين أنها تسعى للوقوف على خاطر الطوائف الأخرى، لا سيما تلك التي يمتلك حزبيها الرئيسيين السلاح، والذين يقوم مناصروهما بالعراضات العنيفة في الشارع، عند الشاردة والواردة، متذرّعين بفيديو فتنوي قديم يتم نبشه فجأة من هنا، أو شتم لأحد زعمائهم السياسيين من هناك.

    

تفيد الأحداث بأنّه عمليا، وحده رئيس الحكومة قد استقال، في حين أنّ رئيسي الجمهورية ومجلس النواب بقيا في منصبهما، وأنّ الانتفاضة لم تعد تطالب فعليا برحيلهما. وحده السراي الحكومي، مقر رئاسة مجلس الوزراء، كان قبلة المتظاهرين الفعلية، الذين تجمهروا بوجهه، لا سيما في الأيام الأولى من الانتفاضة؛ في حين أنّ الساحات المقابلة للقصر الجمهوري بقيت ممنوعة منعا باتا على المتظاهرين، إلا على أنصار رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل، وأنّ القوى الأمنية، من حرس مجلس نيابي وقوى مكافحة شغب، مستعدة أن تحوّل ليل وسط بيروت إلى بقعة كبيرة من الضباب التام بفعل الاستعمال المفرط والعشوائي لراجمات القنابل المسيلة للدموع بوجه المتظاهرين، وذلك "دفاعا" عن مداخل ساحة النجمة المؤدية لمجلس النواب.

 

وحده بيت الوسط، منزل رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري، يتم التجمع والتظاهر أمامه، في حين أنّه عندما يتوجه المتظاهرون إلى مقر رئيس مجلس النواب نبيه بري، في عين التينة، ينالون نصيبهم من الضرب والتعنيف في الشوارع المؤدية إليه، وذلك حتى قبل أن يصلوا إلى المقر، وفي حين أنّ الطرق المؤدية إلى القصر الجمهوري مقطوعة على بعد كيلومترات من القصر، وأنّ أنصار التيار الوطني الحر برئاسة صهر رئيس الجمهورية يتعرضون للأعداد الخجولة من المنتفضين التي تذهب للتجمع على طريق بعبدا.

 

إلغاء الطائفية السياسية يجب أن يسري على الجميع، جميع الطوائف والأحزاب والقوى السياسية، دون أي استثناء، وإلا تحولت الانتفاضة لمجرد ذريعة شكلية لخصومها

وحده، أقله حتى الآن، رئيس وزراء ونائب سابق، فؤاد السنيورة، يتعرّض لأبشع أنواع التجريح الغوغائي الجماعي في مكان عامّ، وذلك عند حضوره لحفل موسيقي لمناسبة عيد الميلاد في الجامعة الأميركية في بيروت، في حين أنه من الصعب جدا تخيل أن يتم التصرف نفسه مع نائب عن حزب اللّه مثلا، لا سيما أنّه من المستبعد أصلا أن يحضر أحد نواب الحزب حفل موسيقي، وفي مناسبة دينية غير إسلامية. وحده فؤاد السنيورة "يحاكم" شعبويا أمام حشد عام متفلّت من أبسط قواعد الانتظام العام، أي من تلك القواعد العامة الضرورية لانتظام أي مجتمع متحضر، ولتفريقه عن مجتمع شريعة الغاب، والتي تقول أنّ القضاء وحده هو المخوّل محاكمة أي متهم، والانكباب على دراسة الأدلة والقرائن لإدانته أو تبرئته. الحقد ممكن أن يكون شرعيا ومبرّرا ومفهوما، ولكنّ الأكيد أنّه لا يبني بلدا، خصوصا عندما ينتشر هذا الحقد أيضا في نخب البلد الثافية ويعميها، لا سيما أنه من المفترض أن تكون هذه النخب أكثر وعيا من غيرها من شرائح المجتمع.

 

وحده مفتي الجمهورية اللبنانية، الشيخ عبد اللطيف دريان، يتعرض لحملة تشهير واستهزاء في الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، عندما ينقل عنه أن الطائفة السنية توافقت على اسم سعد الحريري كمرشح لرئاسة مجلس الوزراء، في حين أنّ الانتفاضة لا تحرك ساكنا وتخضع بشكل تام لإرادة بكركي عندما يقول البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي ما معناه أنّ رئيس الجمهورية الماروني خط أحمر، وأنه ممنوع إسقاطه في الشارع.

 

وحدها الطائفة السنية يطبّق عليها، من قبل كثيرين في الانتفاضة، تابوهات أخلاقية عقيمة ومستحدثة في السياسة اللبنانية، لا تتطابق مع تعقيدات الواقع الطائفي اللبناني. وحده يوصف بالطائفي والرجعي ذلك الخطاب الصادر عن بعض الأوساط الرسمية والشعبية في الطائفة السنية، الرافض لضرب مبدأ الميثاقية عند تكليف رئيس الوزراء الجديد حسان دياب، إذ نال هذا الأخير على أقل من ربع أصوات النواب في طائفته (السنة)، عند تسميته لتولي المركز الأول والأهم في الدولة العائد للطائفة السنية، بحسب الدستور. بنظر الكثيرين في الانتفاضة، وحده هذا الخطاب يستوجب استحياء مطلقيه منه، والاستعاضة عنه بكثير من النفاق الذي يدعي العلمانية والتكاذب "المدني" الطوباوي الحالم والمفصول عن الواقع، وغيرها من الشعارات البراقة التي لا تخلو من التفاهة في كثير من الأحيان، والتي لا تغني ولا تسمن من جوع، لا سيما تلك القائلة أنّ الاعتراض على تسمية دياب هي فقط من باب أنه مرشح 8 آذار، وليس أيضا وخصوصا لأن تكليفه جاء بضرب صريح لمبدأ الميثاقية، لأنّ التكلم بالميثاقية الطائفية أصبح "عيبا" و"حراما" في قاموس لبنان المستجد فجأة، وليس فعليا الجديد.

  

كل ذلك، في حين أنّه يتم تعطيل عمل المؤسسات الدستورية لأكثر من سنتين للإتيان برئيس جمهورية ميثاقي (الجنرال ميشال عون)، لا سيما أنه "الأقوى ضمن طائفته" بحسب التوافق الذي حصل على شخصه، برعاية بكركي، من قبل زعماء الطائفة المارونية، فرضخ المسلمون لهذا التوافق؛ أو في حين أنه يتم اعتبار حكومة فؤاد السنيورة "بتراء" عند استقالة وزراء من لون طائفي واحد (شيعة) منها (في ال2007).

  

كل ما سبق ليس دفاعا عن سعد الحريري، ولا عن غيره من زعماء الطائفة السنية. فالحريري قد راكم الفشل على الفشل، في السياسة وفي الاقتصاد، مبددا إرث أبيه السياسي والشعبي، ولا شيء يمكن أن يشفع لأخطائه، التي لا تبدأ بالتسوية- الصفقة الكارثية مع التيار الوطني الحر وحلفائه في ل2016، التي أوصلت الجنرال ميشال عون لرئاسة الجمهورية، ولا تنتهي بالمناورات الخائبة الأخيرة قبيل تسمية رئيس جديد للحكومةk كل ما في الأمر، أنه حذار أن نصبح، نحن أنصار انتفاضة الشعب اللبناني، ما يعرف بحمقى مفيدين أو أبرياء مفيدين (Useful idiots- useful innocents). لا للاستحياء في قول الأمور كما هي، ولا للوجل أمام تابوهات أخلاقية جديدة مصطنعة في السياسة اللبنانية.

 

فطالما لم يتمّ تعديل الدستور الحالي (نصا وعرفا، ومنه عرف الميثاقية الذي أعيد تكريسه مؤخرا في الانتخابات الرئاسية وعند إقرار قانون انتخابات نيابية جديد)، لا سيما لجهة تقاسم السلطة بين الطوائف، وطالما لم يتم تكريس إلغاء الطائفية السياسية – وهو مطلب أساسي للانتفاضة – بشكل واضح لا لبس فيه في النصوص (ليس فقط وعود دستورية معلقة في الهواء)، بكلام آخر: طالما لم يتم صياغة عقد اجتماعي جديد بوضوح تام، على الانتفاضة أن تتمسك بتطبيق الدستور بشكله الحالي. وإلا، في حال تنازل البعض بالممارسة عن حقوقه الطائفية التي يكفلها الدستور الحالي، ولم يتنازل فعليا البعض الآخر، لا سيما ممّن يمسكون اليوم بزمام السلطة عمليا، نكون قد وقعنا في فخ اختلال التوازنات في البلد بفعل التنازل المجاني دون مقابل للفريق الأقوى على الأرض، لا سيما ذاك الفريق الذي يملك السلاح ولحلفائه.

  

إلغاء الطائفية السياسية يجب أن يسري على الجميع، جميع الطوائف والأحزاب والقوى السياسية، دون أي استثناء، وإلا تحولت الانتفاضة لمجرد ذريعة شكلية لخصومها بهدف أن يحققوا مكتسبات طائفية إضافية على حساب الآخرين. كما أنه لا معنى للانتفاضة دون المطالبة برحيل رأس الهرم. لا معنى لحراك يكتفي فقط بكبش فداء يُقدّم له شكليا كقربان لتنفيس غضب الشارع، بينما تبقى المنظومة الحاكمة تمسك فعليا بزمام الأمور في البلد، دون أي تغيير في العم، إعادة تصويب بوصلة الانتفاضة أصبح واجبا. هو ضرورة في سبيل تحقيق التغيير الفعلي ومطالب الانتفاضة المحقة كلن يعني كلن، مش بس واحد منهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.