شعار قسم مدونات

في مديح العادي الذي يشبهك

Blogs مجتمع

كنت قد توقفت عن الكتابة لشهر أو يزيد، ظللت واقفاً هكذا متفرجاً على بلدي، على الحياة فيها وهي تمضي وتتسلل من بين أزقتها وجنباتها المكتظة بالحكايا والناس، تتجاوزني تارة إلى سواي وتتوقف عندي تاراتٍ أُخرى لتبثني قدري المستحق من المآسي والمسرات، من الصباح وحتى الظهيرة الكثير من الناس العاديين يمرون من أمامك دون أن تكشف لك وجوههم الغاضبة عن أي سر غامض – لا عظمة هنا – ستقول في نفسك ..فقط مجرد بشر عاديين ذوو ملامح عادية وحيوات تبدو هي الأخرى عادية، وإن كنت محظوظاً ذات يوم وظفرت من أحدهم بحوار قصير فستكشف لك كلاماتهم عن مدى بساطتهم وتواضع أحلامهم، لا أحد منهم يرغب في تغيير العالم، أو الحكومة أو حتى روتينه اليومي ..في المجمل لا تتجاوز الطموحات هنا محيا الرغيفة وبضعة ملاليم تتدحرج بها عجلة الأيام المثقوبة!

    

لكن في النهاية لا يمكن لنا أن ننبش قاع المرء بثرثرة قصيرة كـ ما يقول دوستوفيسكي، ولا يمكن للواحد منا أن يفهم ما يكابده الآخر في دائرته الصغيرة بمحض نظرة خاطفة تختزله ثواني . بول أوستر في كتابه اختراع العزلة كان قد شخَّص هذا الداء الاختزالي في معرض بحثه عن أبيه المتوفى، وكيف أننا لا يمكن أن نعرف عن الآخر إلا ذلك الجزء الضئيل الذي يقرر هو أن يكشفه لنا .

    

أما في الحياة فنحن لا نشاهد إلا ذلك الجزء الخارجي من الناس، صراعاتهم الداخلية وحروبهم الصغيرة تظل دوماً محجوبة عنا بغطاء سميك لا يمكن لأعيننا أن تنظر من خلاله، لكن عقولنا التي لا تعرف أن تقول أنها لا تعرف تلجأ دائماً لتكملة الصورة الناقصة التي لديها بأشياء لا علاقة لها بما نريد معرفته عن الآخر..فلان الدكتور وفلان المهندس، وليس فلان الطيَّب أو فلان صاحب القلب المرهف هكذا تأخذ المعرفة بالآخر شكلها العام، استناداً إلى طبيعة المهام التي يؤديها البشر في هذا العالم يتم تعريفهم ومن ثم تحديد حقيقة ذواتهم وأهميتهم تبعاً لذلك .

   

كان عزت

لو ننتبه لرأينا بطولات حقيقية في مضامير حقيقية لأشخاص عاديين يعبروننا في كل يوم ليخوضوا معاركهم ويعودوا منها في المساء منتصرين دون تصفيق ودون ضجيج

بيغوفتش قد تحدث عن هذه المعضلة الرهيبة بإسهاب، وكيف أن البشر لا يُنظر إليهم كذوات حقيقية إلا في الأدب . ففي الرواية الأدبية وحدها – كما يقول عزت – قد يكون البطل ماسح أحذية أو بَوَّاباً فقيراً في حين قد يأخذ الملك دوراً هامشياً مهملاً، يحدث هذا لأن الرواية تنظر للبشر من الداخل، تنظر لصراعاتهم التي لا يعرفها أحد ولندوبهم التي يجهلها الجميع، تنظر لحقيقة ذواتهم وتطلعنا عليها، لذا لا تغدو القشور الخارجية – مهما بلغت من مكانة – بذات أهمية، أما في الحياة الحقيقية فالأمر مختلف تماماً، الخارج دائماً هو الذي يحدد أهمية الذات الماثلة أمامنا، وتبعاً لذلك تتماهى معاني البطولة والعظمة، ويُعاد ترتيب الناس من حولنا بطريقة مُخِلَّة تُغفل حقيقة الشخوص وعوالمها الداخلية الخفية .

   

قبل أيام وفي أثناء مروري المعتاد على صفحات العالم الافتراضي صادفت منشوراً لأحد الأصدقاء، هو ما حملني لأكتب هذا المقال، شدني ذاك المنشور من أُذني حرفياً وهمس فيها بأننا أبناء جيل بائس، جحافل من العاديين منزوعي العظمة ومتوسطي المواهب، وفوق هذا كله سيئي الحظ إذ لم نحظى بالعظمة ولم نحظى حتى بصحبة من يملكونها، أخذت خطوتين إلى الوراء متأملاً في العظمة التي تحدث عنها صديقي، تلك العظمة التي رسمتها السوشيال ميديا وهوليوود في رؤوسنا بإتقان، ومتأملاً في حيوات الآلاف من العاديين الذين أعرفهم ولا أعرفهم، الذين اعتدنا أن ننظر إليهم من خلال وظائفهم وألقابهم، الذين اعتدنا أن نراقبهم من الخارج ونتجاهل ما يكابدونه في الدواخل .

  

للحظات أستطيع أن أقول أن الكثير من ضحكات العاديين الكئيبة كانت أكثر صدقاً من قهقهات جواكين فينكس حتى وإن لم ينالوا عليها أي أوسكار، للحظات أستطيع أن أقول حيوات بعض المشردين وماسحي الأحذية كانت تستحق التوثيق والإجلال أكثر من مذكرات أوباما ومن سيرته الذاتية، لكن الحياة لا تمنح الفرصة لكل من يستحق، ماسح الأحذية ذاك لو تهيأت له ظروف أكثر عدالة لكان اليوم عظيمنا المبجل ..لكن الحياة كما قلت في مقال سابق ليست عادلة وليست في الأصل داراً للجزاء، ولا ينبغي أن نأخذ ألقابها ووظائفها على محمل الجِد، إنما هي مجرد محطة عابرة قد نلعب فيها أدواراً لا نستحقها وقد نحمل فيها ألقاباً لا تناسب حقيقة ذواتنا، بلاءً واختباراً من رب العزة .

  

لكن بالقليل الذي لدينا من البصيرة نستطيع أن نرى جمال العاديين وعظمتهم التي لا توازيها عظمة، فقط لو ننتبه لرأينا بطولات حقيقية في مضامير حقيقية لأشخاص عاديين يعبروننا في كل يوم ليخوضوا معاركهم ويعودوا منها في المساء منتصرين دون تصفيق ودون ضجيج.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.