شعار قسم مدونات

ما بين حمدوك وغورباتشوف.. واشنطن لا تحترم الضعفاء

blogs حمدوك

في العام ١٩٨٨ وصل الزعيم السوفيتي ميخائيل غورباتشوف إلى قمة السلطة في الاتحاد السوفيتي في ظل أوضاع اقتصادية بالغة التعقيد. في محاولة منه لإصلاح المرض الذي أصاب الدب الروسي، قرر أنه لابد من إجراءات هيكلية في طبيعة وتركيبة وشكل السلطة "البرسترويكا". الدولة العظمى التي ملأت الزمان زخما والمكان ضجيجا وجدت نفسها عاجزة عن توفير أبسط مقومات الحياة لشعبها: الزبدة والخبز؛ بينما توسعت في الإنتاج العسكري كما ونوعا حتى أضحت اكبر مهدد للأمن في أوروبا. كانت المصانع العسكرية السوفيتية المملوكة للدولة قادرة على إنتاج دبابة عالية الكفاءة في حدود مبلغ لا يتجاوز الخمسمائة ألف روبل؛ بينما نظيراتها الأمريكية (والتي تتبع للقطاع الخاص) تنتج الدبابة ذات المواصفات المكافئة بمبلغ يتجاوز المليون دولار. لكن هل كانت الدبابات والترسانة العسكرية السوفيتية قادرة على إطعام الشعب وملئ معدته الفارغة؟

  

لم يجد غورباتشوف بدًا من إيقاف الصرف على الترسانة العسكرية في محاولة لإيقاف نزيف الأزمة الاقتصادية. قررت القيادة السوفيتية المدنية الدخول في مفاوضات مع الند الأمريكي، لإنهاء الحرب الباردة ونزع السلاح النووي. كان غورباتشوف سخيًا في تقديم التنازلات التي لم يكن الجانب الامريكي يحلم بها. فقد أعلن من جانب واحد عن حل حزب وارسو دون إلزام غريمه الأمريكي بتقديم تنازل مماثل فيما يتعلق بحلف الناتو. هذه التنازلات السخية جعلت جورج بوش يعي أنه أمام قائد منهزم قادر على تقديم التنازلات دون مقابل. ارتأت الـ CIA (والتي جلس الرئيس برش على قمتها) أن الوضع الاقتصادي المتردي ربما دفع الزعيم السوفيتي إلى تقديم مزيد من التنازلات المجانية؛ فلا يجب التعجل وتقديم المقابل.

 

 

كان غورباتشوف يسعى من وراء تلك التنازلات السخية في الحصول على قرض أمريكي لا يتجاوز العشرون مليار دولار لتأمين شحنات من القمح وبداية الإصلاح الاقتصادي والزراعي؛ لكن جورج بوش أحبطه عندما ذكر له "انني مضطر لأخذ موافقة الكونغرس قبل أن أعن التزامي بمحكم هذا القرض". تدخل الرئيس الألماني هولمت كول منزعجًا وطالب بوش بضرورة الموافقة الفورية على القرض قبل أن يغير غورباتشوف رأيه ويعدنا إلى الحرب الباردة مجددا. لكن بوش (المسنود بعدد ضخم من المستشارين الأمنيين والاستراتيجيين وعلماء النفس) هدأ من روعه قائلا: "هدئ من روعك يا صديقي، غورباتشوف سيقدم المزيد من التنازلات ودون مقابل".

 

لقد رأت واشنطن تسليما ورضوخا من الزعيم السوداني مماثلًا لما رأته من غورباتشوف. فما الذي يمنع من استغلال هذه السيولة "في الكرامة الوطنية السودانية" في الحصول على كل التنازلات المجانية؟ 

أوردت هذه الفذلكة التاريخية لعقد مقاربة بين ما قام به الزعيم الشيوعي ميخائيل غورباتشوف وهو يلهث وراء الدعم الغربي لمعالجة الأزمة الاقتصادية الخانقة في بلاده؛ وبين ما يقوم به الزعيم السوداني الدكتور عبدالله حمدوك "الأكاديمي السوداني الذي اعتنق الفكر الشيوعي يوما ما" من استجداء للغرب سعيا لحل الضائقة الاقتصادية الخانقة في بلاده. ليس سرًا أن الدكتور حمدوك كان قد تخلى عن أفكاره الشيوعية والاشتراكية، بل إن ردته الفكرية أودت به إلى أقصى المعسكر الرأسمالي الحديث Neoliberalism. لكن المحزن أنه يكرر الماضي دون أن يتبين سنن الأحداث ويقف على عبر التاريخ.

 

وقف غورباتشوف بين يدي جورج بوش الأب وخاطبه بتجرد من الكرامة قائلا: "كان بيرجنيف ومن قبله من قادتنا يكرمون قادة الجيش بمنحهم الأنواط والنياشين، أما اليوم ونسبة للضائقة الاقتصادية فإننا نكرمهم بإعطائهم حصصا من المواد التموينية". وبعد أكثر من ثلاث عقود، جاءت زيارة الدكتور حمدوك إلى واشنطن دون تقديم دعوة رسمية. وقف بين يدي الباحثين في المركز الأطلسي للدراسات قائلا: "لقد ورثنا من الإنجليز خدمة مدنية متميزة، لكننا فشلنا في المحافظة عليها. إننا نطمح في مساعدتكم ونسعى للحصول على خبراتكم وأموالكم". لكن كاميرون هيدسون اغتنم الفرصة فباغت الدكتور حمدوك قائلا: "لماذا لا تستفيدون من نموذج لوكربي" ليأتي الرد الحمدوكي مدويا "نحن مستعدون لدراسة كل الخيارات".

   

وحتى تكتمل المقاربة، فإنني اختم مقالي بتوضيح النقاط التالية:

1. لم تكن مطالب الولايات المتحدة لتتوقف عند حدود حلف وارسو، بل كانت المؤسسات الامريكية تسعى إلى تفتيت الاتحاد السوفيتي. لذلك عندما جاء غورباتشوف يجرجر أذيال الهزيمة، وجد صناع القرار في واشنطن الفرصة مواتية لحلب البقرة الروسية بتقديم الحد الأدنى من المقابل.

  

2. نفس النموذج قد يتكرر مع السودان، فطموح واشنطن لا تقف عند حدود إسقاط الإنقاذ أو تسليم البشير إلى الجنائية الدولية. فجنوب السودان (تلك الدولة الوليدة التي راهنت عليها واشنطن) تسعى للحصول على ابيي، ومصر وإثيوبيا تسعيان للحصول على مياه النيل، اما إسرائيل فحلمها يكمن في الحصول على الاعتراف السوداني وذلك عبر مباركة صفقة القرن.

 

3. وهنا تبدوا المقاربة أكثر وضوحًا؛ فمثلما استغلت واشنطن الانهيار الاقتصادي السوفيتي وامتنعت عن تقديم قرض بسيط لا يتجاوز العشرون مليار من الدولارات، فإنها تكرر نفس السيناريو مع السودان. لقد رأت واشنطن تسليما ورضوخا من الزعيم السوداني مماثلًا لما رأته من غورباتشوف. فما الذي يمنع من استغلال هذه السيولة "في الكرامة الوطنية السودانية" في الحصول على كل التنازلات المجانية؟ وهنا اقتبس نصًا إنجليزيًا يكثر استخدامه "desperate person can do anything".

  

أتمنى أن يستفيد الدكتور حمدوك من تجارب التاريخ، وألا يقع في الفخ. قدرنا أننا نعيش في عالم لا يحترم الضعفاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.