شعار قسم مدونات

مستعمرات بريطانية أصبحت دول عظمى وفرنسية لم تصبح دول

Blogs الاستعمار الفرنسي

لم أكُن يوماً مُحلّلاً سياسيا يعلمُ بخبايا السياسة ودهاليزها، ولا مؤرّخاً جيداُ يُشّهدُ له ويُسّتَشّهد بتاريخهِ الذي ارّخَهُ، ولا ناقدا أدبي، يُهتمُّ بنقدهِ من قبلِ من يهتم بالمجال الأدبي، ولا اعتبرُ نّفسي كاتباً مُطّلع، رغمَ ما املكهُ من صفحاتِ الكُتب الكثيرة التي سمحتُ لها بأن تُقيمَ وبما يُناسبها داخل رأسي الذي – كما يُقال- يأخذ حجماً كبيراً على جسدي. فأنا لا اعتبرُ نفسي إلا قارئاً مُبتدئ، أقومُ بعملِ صوّلات وجوّلات على جميع المكتَبات المُحيطة بي -افتراضيةً كانت او واقعيّة- والتي تحمِل على رفوفها اقساما مُتعدّدة ومتنوّعة من الكُتُب التاريخية والأدبية والسّياسية والثّقافية والنّفسية والكثير الكثير من أقسام وأنواع الكُتب، علّني أجدُ بها ما يُعيني على فهّمِ هذه الحياة التي أعيشُ بها، بَل التي تعيشُ بي، فهي حياة مُتداخلةَ الأطراف، لا تسّتطيع ان تفّهم كُل ما يحدُث على بلاطها، ولا تسّتطيع – حتى- أن تعرفَ نوع الخيط الذي تغّزلُ به هذه الحياة أحوالنا التاريخية والأدبية والسياسية.

ولأنّني وكما قُلت، اقومُ بعملِ جولاتٍ وصوّلات في شوارع المكتبةِ الأدبية والسياسية، فقَد وقعَ تحتَ يدي كتاب "a peaca to end all peaca" للكاتب وللمُفكّر والمُحامي الأميركي المُختَص بالقانون الدولي "David fromkin" حيث يتحدَّث ذلك الكتاب عن القضايا التي أشّعلَت الشّرق الأوسط بالحروب، وتحدَّث عن الإستغناء البريطاني عن الدولة العثمانية في آخر سنواتها والتي سُمّيَت "بالرجل المريض"، وتحدّثَ الكتاب أيضاً عن القضية الأهم والتي كانت السبب الرئيسي في كتابته، وهي ما عُرفَ وما زالَت تُعرَف الى الآن "باللُعبة الكُبرى" التي كانت تتضمَّن خُطّة التّقسيم للشّرِق الأوسط حسّب مطامِع الأطراف الثلاثة القيّصَر الروسي، وفرنسا، وبريطانيا التي كانَت بمثابة القائد والزّعيم لهذه الخُطة، وحسبما ذُكِرَ بهذا الكتاب، فقد حصَلَت بريطانيا على حُصة أكبَر من تلكَ الحُصص التي حصلَ عليها الطرفين الآخرين، بل كان هناكَ إتفاقاً بين الطرَف البريطاني والفرنسي بأن يقوما بمنح القيصر حصةً غير المُتّفَق عليها، ولربما كان هذا الأمر قد زاد بحدّية الخلافات الروسية الأوروبية التي ما زال هذا الشّرق البائس يتحمَّل كُل أعبائها، وما زال يُقسّم كما يُريدونَ له.

الاستعمار البريطاني، كانَ استعماراً مُحنّكاً، ساعياً إلى تركِ بصمة واضحة المعالم على مُستعمراتهِ سواء إن اسّتقلَّت أم لا، وقد عملَ على تأسيس قاعدة أساسية ثقافية وسياسة وصناعية

لم أقُم بذكرِ هذا الكتاب حتى اكتبَ عنه بجميع أجزائهِ وفصولهِ، أو أن أقوم بتلخيصهِ لقارئ هذا المقال، فهذا الكتاب الذي يضُم قُرابة ستُ مئة وخمسون صفحة، يحتاجُ إلى مقالاتٍ عديدة، بل إلى كُتيّبّ صغير، فهو كتاب يحملُ في طيّاته الكثير من البُعد السياسي، ويوضّح صراع الأُمم دينياً وتاريخياً على الأراضي الشّرق أوسطية بشكلٍ عام والأراضي العربية بشكلٍ خاص. إنّ ما دفعني لذكرِ هذا الكتاب، هي مُقارنة بسيطة كنتُ أقوم بها وأنا أسيرُ بأحد شوارع قرّيتي التي تُطلُّ على ثلاثةِ دول. مُقارنة بين اسّتِعمارنا الحالي واستعمارنا في تلكَ الايام، والفَرق بين الدول التي إستعمرَتها بريطانيا والدُول التي استعمرتها فرنسا ودول استعمارية الأُخرى.

ولقَد قادتّني هذه المُقارنة إلى أن أجدَ بأنّ الاستعمار الفرنسي قد خلَّف الكثير من المُسّتعمراتِ التي تُسيطِر عليها ثقافة التخلُّف، وثقافة الخضوع، والعقّلية الأمنية التي لا تُحسِن التعاطي مع الكثير من قضاياها، وثقافة القَمع بجميع أشّكاله، وعلى الجهةِ الأخرى قد وجَدت بأنَّ الإستعمار البريطاني قد تركَ خلفهُ دولاً تعرفُ على خارطة الدول العالمية بأنّها دول ذات سيادة، تمّلِك قرارها السيادي دون أن يُفرَض أو يؤثّر عليها آراء خارجية، والكثير من هذه الدّول هي دوَل عظمى الآن- اقتصاديا وسياسياً، وتفرِض ما تفرضهُ من قرارات على دول العالم أجمَع.

وإن قُمنا بذكرِ بعض الدول لكلا الاستعمارين لوجدنا بأنّ هناكَ فروقاً واضحه من خلال الذكر فقط، فمثلاً من الدول التي احتّلتها بريطانيا ولها شأن كبير الآن على مستوى العالم (الهند، الصين، الولايات المتحدة، كندا، العراق قبل عصّر الانقلابات)، وعلى الوجه الآخر لو ذكرنا المُستعمرات الفرنسية، والبريطانية المُشتركة مع فرنسا لذكرنا الدول التي تُعرف الآن بدول العالم الثالث أو الدول الغير مُتقدمة (قارة أفريقيا، والدول العربية).

إن دلَّ هذا على شيء، فإنما يدُل على أنّ الاستعمار البريطاني، كانَ استعماراً مُحنّكاً، ساعياً إلى تركِ بصمة واضحة المعالم على مُستعمراتهِ سواء إن اسّتقلَّت أم لا، وقد عملَ على تأسيس قاعدة أساسية ثقافية وسياسة وصناعية، كانت بمثابة حجرِ الأساس لبناء الدول المُسّتعمَرة بعد أن إسّتقلَّت. أمّا تلكَ المُسّتعمَرات الفرنسية فهي لم تسّتَقِل وما زالَت إلى الآن ساحات قتل وسَفك دماء، وما زالَت في أسفل حضيض الدول.

وفي آخر هذا المقال أُريد أن أطرحَ عليكُم سؤالاً، وأتمنى أن يكونَ هذا السؤال لكم بمثابة الاستعمار البريطاني للدول المُتقدّمة حاليا: هل كان هُناك علاقة كبيرة للاستعمار بتأخرنا عن دول العالم، واعتبار دولنا ساحات خَصبة لسفّكِ الدماء وقتّلِ الأرواح؟ أم كُل ما يحصُل لنا بسببِ تخلّفنا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.