شعار قسم مدونات

لا تجعلوا بناتكم سلعة!

blogs زواج

رغم الفوارق الطبقية التي تفصل بينهما، أحبا بعضهما وعملا المستحيل لكي يكلل حبهما العفيف بالعيش تحت سقف واحد، إلى أن استسلم والد الفتاة وحقق رغبة ابنته مع تحملها لعواقب اختيارها السئ في نظره.. وما إن أتما خطبتهما في سعادة غامرة حتى فوجئ بشروط ومطالب وتكاليف دقت عنقه وحبست أنفاسه ورفعت ضغطه.. كان هذا الموقف التعجيزي من قبل الأب يعد ضمانه الإضطراري لمستقبل ابنته مع شخص لن يوفر لها ما توفر في بيت عائلتها، ويعد بالنسبة للحبيبين محض انتقام لهما، وهذا ما جعل الشاب يكابر عزة لنفسه ويوافق على الشروط المفروضة عليه دون تردد، في نفس الوقت كان يعلم أن تنفيدها يتطلب جهدا مضنيا ووقتا طويلا، وفي فضفضة محزنة بينه وبين خطيبته قالها بحرقة وألم: "والدك باعك لي"، كما توعّد بعد زواجهما أن يمنعها نهائيا من زيارته، وأن لا تدخل بيته إلا يوم جنازته.

وفي لحظة قنوط وقلة صبر، خاصة بعد مرور وقت طويل دون أن يوفر الخطيب ربع ثمن المهر.. قررت الفتاة مساعدة خطيبها خفية عن عائلتها بأخد مبلغ مالي كبير كانت تكتنزه والدتها، وإعطاءه للشاب بغية التخفيف عن كاهله، لكن بمجرد أن اكتشفت الأم اختفاء المبلغ من مكانه حامت الشكوك حولها، وازداد سوء الظن به كعريس طامع في ثروتهم، وبعد أن صارت الأمور أكثر تعقيدا أنهت الفتاة المشكل بمشكل أسوء منه، ووضعت والدها تحت أمر الواقع، لكنه الواقع الذي جعل والدها مطأطأ الرأس طوال حياته.. زنت مع الشاب اضطرارا ممزوجا بالرغبة، وكان على والدها أن يبعثها إلى بيتها بما يوافق استطاعة الزوج لا أقل ولا أكثر، ولو تعامل مع ابنته طبقا للشرع وما حلّله الله لكانت الأمور عكس ما آلت إليه.

لا نعذر شبابنا في طرق أبواب الحرام، لكنّنا ربّما نتحمّل مثل أوزار أولئك الشّباب الذي قادهم الشّيطان إلى طرق الغواية، لأنّنا من تسبّب في ذلك بإصرارنا على التقليد الأعمى.. الكلّ أصبح يقول: "نفعل ما يفعله النّاس"

أسست البنت أسرتها بعيدا عن أهلها، ورغم أنها الآن تعيش في سعادة ورضى وسط عائلة محبة، إلا أنها تفتقد بشدة منزل والديها وتشتاق لهم اشتياق المغترب لدياره، وما هي مغتربة بحق لكنها ممنوعة من الاتصال بهم أو زيارتهم منذ زواجها، تنفيدا لأوامر والدها الذي تبرأ منها.. هي نهاية تشبه الكثير من النهايات المؤلمة لوقائع و أحداث يعانيها شبابنا اليوم.. لا شيء يفتكُ بالنفس بقدر خيبات الرجاء، والسقوط في قيعان اليأس والقنوط، وكراهيةُ الدنيا. هكذا يبدو منظر شبابنا في هذا العصر ينتظر سنواتٍ طوال للالتقاء بنصفه الآخر، ويحرم! والنتيجة آلاف الأ طفال يولدون من الزّنا كلّ عام.. فتّحت أمامهم أبواب الشّهوات والحرام وغلّقت دونهم أبواب الحلال.. فتّحت لهم القنوات والمواقع وذلّلت لهم سبل الوصول إلى الحرام في كلّ مكان، ووضعت أمامهم العراقيل على طريق الزّواج..

شبابنا هم من يدفعون الثّمن بدينهم ودنياهم.. عسّرنا عليهم الحلال، فانطلقوا يطلبون الحرام.. شباب بلغوا الثلاثينات، ومنهم من هو في الأربعينات، ولا يزالون يعانون العزوبية ويكابدون تبعاتها.. وفي المقابل فتيات في الثلاثينات والأربعينات ولا يزلن ينتظرن من يطرق أبوابهنّ.. أحلام شبابنا اليوم تستحيل رماداً تذروه الرياح، وخططهم التي لطالما رسموها بأنامل من نور سرعان ما تصيرُ مستنقعاتٍ من اليأس وخيبات أملٍ متلاحقة، وتتحول عقولهم إلى أدوات تدميرية. إنّنا لسنا نبرّر لشبابنا أن يذهبوا إلى الحرام، كلاّ وألف كلاّ، فمهما كان الحلال صعبا فلا يجوز للشابّ المسلم أبدا أن يطرق أبواب الحرام، عليه أن يحصّن نفسه بتقوى الله وغضّ بصره وبالصيام، حتى ييسّر الله له الحلال..

لا نعذر شبابنا في طرق أبواب الحرام، لكنّنا ربّما نتحمّل مثل أوزار أولئك الشّباب الذي قادهم الشّيطان إلى طرق الغواية، لأنّنا من تسبّب في ذلك بإصرارنا على التقليد الأعمى.. الكلّ أصبح يقول: "نفعل ما يفعله النّاس".. وكأن ما يفعله النّاس وحي لا تجوز مخالفته.. كلّ أب يأتيه من يخطب ابنته، ويحدّثه عن المهر والشّروط والتكاليف، يفاجأ بالأب يقول له: "لا بدّ من مشاورة النّساء".. هو لا يريد أن يستشير إخوته الرّجال، ولا يريد أن يستشير إمام الحيّ، لكنّه يريد أن يستشير النّساء وهنّ من يتّخذن القرار ويحدّدن قائمة المطالب التي تُعرف بدايتها ولا تعرف نهايتها..

ليت الزمان يعود بنا إلى عهد كان مهر "عصمت الدين خاتون"، ابنة الأمير "معين الدين أنر"، هو وحدة الشام ووأد الخلافات بين والدها وزوجها، وحدة كانت احدى خطوات تحرير بيت المقدس الذي أتمه زوجها الثاني "صلاح الدين الأيوبي"… في زمن يصبح المال أصلاً من لا أصل له، ونسب من لا نسب عنده، تعود الذاكرة الى زمن كان النسب فيه نسب التقوى الذي جعل "سعيد بن المسيب" يرفض مصاهرة "عبد الملك بن مروان"، على مهر تحمله القوافل ما بين دمشق والمدينة، مفضلاً عليه تلميذاً تقياً من تلامذته قدم لابنته درهمين مهراً، وهي القصة التي خلدها"الرافعي" في كتابه "وحي القلم" بعنوان "زواج بدرهمين"، درهمان فقط كانا مهر ابنة فقيه المدينة التي شهد لها زوجها بوراثة علم وعقل وسماحة أبيها.

فلماذا يتنازل الرّجال الآن عن قوامتهم؟ هل نسوا قول ربّهم جلّ وعلا: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِم"، لماذا يرضخون لقرارات النّساء؟ نعم أمر جيّد أن يستشير الرّجل زوجته في زواج ابنتها، لكنّه لا يليق أبدا أن يترك القرار شورى بين النّساء دون أن يتدخّل الرّجل ولو ليأمر بمعروف أو ينهى عن منكر.. حرام وعيب أن يتحوّل دور الأب إلى مجرّد ناقل، ينقل قرارات النّساء إلى الشابّ الذي جاء يخطب ابنته.. أين القوامة؟ أين الرّجولة؟

يقول النبيّ عليه الصّلاة والسّلام: "إنّ أعظم النكاح بركة، أيسره مؤونة".. نحن نقول إنّنا نحبّ النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- ونقول إنّه قدوتنا، فلماذا لا نقتدي به في صداق زوجاته وبناته الذي لم يتجاوز 500 درهم؟ بل إنّه زوّج ابنته "فاطمة" سيّدة نساء العالمين وسيّدة نساء أهل الجنّة، زوّجها "لعلي بن أبي طالب" رضي الله عنه، مقابل درع حطمية، وزوج عليه الصّلاة والسّلام امرأة لرجل فقير بما معه من القرآن، بعد أن قال له: "التمس ولو خاتماً من حديد"… هل آن لنا أن نعود إلى رشدنا ونوقف هذا الفساد؟ هل آن للآباء أن يتّقوا الله ويحفظوا قوامتهم ولا يتركوا أمور الزّواج إلى النّساء؟ المشورة مطلوبة، لكنّ القرار الأخير ينبغي أن يرجع إلى الأب الذي يفترض أن يشاور الأئمّة والعقلاء ولا يشاور الباعة والتجّار، لأنّه يزوّج ابنته ولا يبيع سلعة من السّلع.

اتّخِذوا القرار أيها الآباء.. من كانت له ابنة بلغت سنّ الزّواج، وجاءه من يخطبها، فليسأل عن دينه وخلقه، فإن وجده صاحب دين وخلق، فليزوّجه، ولييسّر عليه، وليحسم الأمر في حينه وليحدّد مهرا سهلا ميسورا، ولا يكثر عليه من المجالس التي تتبعها المطالب والنّفقات الباهظة.. إنّ هذه العادات التي أصبحت وكأنّها قانون إلهيّ ولا يكاد يخالفها إلا من رحم الله، هي من الآصار والأغلال التي وضعها الشّيطان ولم يأذن بها الرّحمن.

وأنتنّ أيتها المؤمنات.. أيتها الأخوات. اتّقين الله في شباب هذه الأمّة.. قيمة المرأة ليست فيما تتحلّى به من الذّهب، وليست فيما تلبسه، وليست فيما تحمله معها من الأثاث والحقائب.. المرأة ليست مكلّفة أن تحمل معها إلى بيت زوجها أثاثا وأغراضا.. الزّوج هو من يؤثّث بيته بما استطاع من غير تكلّف، أمّا مهر المرأة فهو حقّ لها تشتري به ما شاءت أو تتنازل عن جزء منه لزوجها.. هي حرّة في أن تتصرّف فيه كما شاءت.. قيمة المرأة في دينها وخلقها ومعدنها وعفّتها وثقافتها ووعيها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.