شعار قسم مدونات

أمل دنقل.. الشاعر الفظ الرقيق

مدونات - أمل دنقل

لُقّب بـ"شاعر الرفض"، وكان من الفظاظة والحدة في اللقاء والحوار ما ينفّر الكثير منه ويجعله على الصعيد الاجتماعيّ "فاشلًا"، فهو رجلٌ لا يؤلَف، يتعسّر معه استكمال حديث، يُنقّب عن نقاط ضعفك ويهاجمك، يحمل معه أسلوبه الاستفزازيّ أينما حل، زاره أحد الأصدقاء المغاربة، وكان به علّة في أحد الساقين ويستعين بعصا في سيره، فرحّب به أمل هاتفًا: "أهلًا يا أعرج" كاسرًا بذلك أي لباقة، كاسيًا ضيفه بالخجل والشعور بعدم الارتياح.

   

وُلد أمل في قنا، وكان صعيديًّا حتّى النخاع، إذا غضب انفجر، وإذا أُهين فار دمه وجُن عقله فلا يهدأ أو ينام حتى يأخذ بثأره، ولم يأخذ من أصله الصعيدي غير ذلك، فتمرّد على الثوابت الاجتماعية والدينيّة التي ورثها عن أبيه الشيخ وقريته الفقيرة الصغيرة، يحافظ على مسافة آمنة بينه وبين الناس ولا يختلط بهم فيسهل عليه الابتعاد والانزواء، ورغم ذلك كان متصلًا بهم، ملتحمًا بهمومهم، وهم نماذجه في شعره.

 

ورغم كل ما قيل عنه، إلا أنه كان شديد الحساسية مصابًا بداء الكبرياء يحمل قلبًا ضعيفًا رقيقًا، وإحساسًا قويًّا بالفقر والبلاد، ولعل هذا أتى بذاك، فكان ينزوي على نفسه يُغلق بابه عليها احتماءً بنفسه من الصدمات والاحباطات، ولا يعوّل على أحد مخافة أن يأتيه الخذلان فيتهشّم قلبه كالزجاج، فعاش منبوذًا اجتماعيًّا ممتلئًا بنفسه داخليًّا، كان يجلس في مقهى الريش في وسط البلد ليلًا، فيتحاشى الكثيرون المرور أمام المقهى حتى لا يرونه فيصيبهم من لسانه سهم، كانوا كذلك إلا عبلة.

  

"إلى صديقتي المشاكسة العزيزة جدًا عليّ، رغم أني لست عزيزًا عليها"

 

كان هذا إهداء أمل الرقيق منمّقًا بخطه الجميل ومزيّنًا بألوان وخطوط، مكتوبًا في نسخة خطيّة لديوان "العهد الآتي" ومُهدى إلى عبلة الرويني، وعبلة كانت صحفيّة مبتدأة تصغره بثلاثة عشر عامًا، تجوب شوارع القاهرة بحثًا عن شاعر يساريّ ليليّ لا عنوان له، مُدرجًا اسمه في قوائم الشخصيات الممنوع ذكرها في الجرائد، تبحث عنه لتُجري لقاءً صحفيًّا نبّهها الكثيرون من أنه لن يُنشر.

 

والتقى الشاعر الصعيديّ الفظّ بالفتاة القاهريّة الرقيقة، وفي اللقاء الرابع قال لها في جرأة: "يجب أن تعلمي أنّكِ لن تكوني أكثر من صديقة"، ولم يُفلح تهديده، راح بعدها الشاعر الفظّ الرقيق يُفصح لها إفصاحًا متحفّظًا عن مشاعره نثرًا رغم كراهيته للنثر، يهديها إياه مع نسخ لأشعاره، أغلى وأنقى ما يمتلك، يشاركها مشاعره الثمينة متخليًّا بذلك عن أسلوبه الدفاعيّ المقترن بأفعاله، فاتحًا قلبه لشخصٍ دون الخوف من أن يعبث فيه، وقد لامس شيئًا رقيقًا شغاف قلبه فانشرح.

 

"إنّي أحتاج كثيرًا من الحُب، وكثيرًا من الوفاء وكثيرًا من التفاني إن صحّ التعبير، لكنّكِ لا تعطين شيئًا…"

 

وكان شعور أمل الدائم بالوحدة، والقلق الوجوديّ الذي يعيشه، والتوتّر الذي يغشاه، والحزن الرزين المنطوي داخل أعماقه، وانفصاله عن الناس الذي عوّد نفسه إياه، كل ذلك يجعله يطلب من عبلة توكيدات وبراهين وإثباتات على حبها الخالص له، رغم اندفاعها العاطفيّ وكونه هو المتحفّظ في إبداء مشاعره، المكتفي بإحساسه العميق داخله، حاجبًا عن مسامعها الكثير من الإطراء والعبارات التي تتعارك داخله.

 

"وقد لا تعرفين أنني ظللت إلى عهد قريب اخجل من كوني شاعرًا لأن الشاعر يقترن في أذهان الناس بالرقة والنعومة وها أنتِ تطلبين منّي دفعة واحدة أن أصير رقيقًا وهادئًا وناعمًا يعرف كيف ينمّق الكلمات".

 

وفضّت عبلة مغاليقه، وتم قرانهما رغم الاعتراضات والتوبيخات التي طالت عبلة، ورغم فقر أمل وإفلاسه الماليّ، وآنس كل منهما راحة قرب الآخر، ودنت النسمات العليلة وحامت حول دنيا دنقل الحارّة، وبعد أشهر الربيع البهيج، خيّم الخريف لسنوات.

 

كان السرطان يستشرى في خلايا رئتي أمل وهو ما زال ممسكًا سيجارته، وكأس خمره، يلوم من يلومه، مُفهمًا عُذّاله أنها متعته الوحيدة والأخيرة ولن يتخلّى عنها، وكلما مرّت عليه الأيام، زاد الحال سوءًا، نُقل إلى معهد السرطان، بقي طريح الفراش سنوات يتألم ويُعالَج، تميل عبلة على أذنه تهمس "هل أنت حزين؟" فيُعجزه المرض عن الرد، ويُومئ "شاعر الرفض" بأن الإجابة نعم، قال الموت كلمته، فرحل "أمل دنقل" عن العالم عام 1983، مُخلّفًا وراءه شعرًا مخلّدًا ما زالت تردده حناجر الثائرين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.