شعار قسم مدونات

"الاشتراكية ذات الخصائص الصينية".. دور المصطلحات في تأطير الأفكار

BLOGS الصين

تمكنت الصين من بناء اقتصاد عالمي أصبح المنافس الأبرز لأول اقتصاد في العالم وهو اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، كما باتت الصين أكبر مصدٌر ومستورد في العالم، إضافة إلى أنها من أسرع الدول نمواً من بين البلدان النامية، وقد خلق هذا التسارع في النمو تفاوتاً كبيراً في نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي. ويعود التفوق الصيني، رغم استمرار فجوة تباين مستويات الدخل، إلى النهج الاقتصادي الذي تنتهجه الصين، باعتماد الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، والتي تعرّف بأنها تطبيق لنظريات الاشتراكية الماركسية اللينينية بما يتلاءم مع الظروف الموضوعية للصين خلال فترات زمنية معينة.

فتطبيق الصين لهذا النموذج من الاشتراكية وتطبيق اقتصاد السوق ولو بشكل جزئي وزيادة الإنتاج واعتماد التصدير والسماح بتملك الأفراد لوسائل الإنتاج والتنافس التجاري والإثراء الشخصي، يثير علامات استفهام. في مقابل التزام الحزب الشيوعي الصيني باحتكار السلطة وعدم السماح بإحداث تغيير أو انقسام في الأمة الصينية، ما يوحي بموقف مناقض لمفهوم اليسارية. كل ما سبق يطرح سؤالاً جوهرياً حول أهمية المصطلح ودوره في شرح الواقع، فماذا تبقى أمام الصين ليتم اعتبارها دولة رأسمالية؟ وبالرغم من عدم الاعتراض على النموذج كونه تفاعلاً ونتاجاً طبيعياً لمسار التاريخ، يبرز السؤال حول المفاهيم والتصورات ودور المصطلح في شرحها.. كما يبرز السؤال في سياق آخر وهو.. هل دولنا العربية دول رأسمالية أم أنها تطبق الاشتراكية ذات الخصائص العربية!

المصطلح يلعب دوراً جوهرياً في توجيه تفكيرنا وتصوراتنا وتحجيمها، دون وعي أو إدراك، وإذا ما تجنبنا سواءا بوعي أو دون وعي تفكيك المفردات وشرحها والاتفاق على مدلولاتها، سوف نقع لا محالة ضحية للتوجيه والانصياع والسيطرة

يلعب الاصطلاح دوراً محورياً في بلورة التصورات، فالمصطلح هو اتفاق جماعي بين فئة من الناس على تعريف مفهوم مجرد يتم تشفيره بين المرسل والمتلقي ليتم فك التشفير لإيصال مفهوم محدد حول موضوع أو قضية معينة. وفي الواقع فإننا لا نملك وسيلة مباشرة أخرى لإيصال الأفكار المجردة سوى عن طريق الاصطلاح، وهذا الوضع في حد ذاته يخلق إشكالية كبرى في مسألة إدراك وفهم الواقع في حال اختلال المفاهيم والمصطلحات، ما يوقعنا في مغالطات حول التوصيف والفهم الدقيق عند اختلال الشيفرة أو عدم اتفاقها بين المرسل والمتلقي. فالإرهاب ودعم الإرهاب ومكافحة الإرهاب توصيفات تخلق صورة معينة في الوعي قد تختلف بين متلقي وآخر. كما أن رفض الاعتراف بإجراء مراجعات وإصلاحات على المفاهيم والنظريات يؤدي للتلاعب بالمصطلحات وتحويرها، مما يضفي غموضاً وتشويشاً على الفهم. في النموذج التنموي الصيني خصوصاً والاقتصاد الاشتراكي عموماً تولّد المصطلحات مفاهيم متباينة وغموضاً احياناً ما يعيق الإدراك الموضوعي للقضية. فالصراع بين الرأسمالية بكافة تفرعاتها والاشتراكية بمختلف توجهاتها يتمحور في الصراع على فرض الطريقة الافضل لإدارة اقتصاد الدولة وفقاً لوجهة نظر كل طرف.

فهل نحن أمام فشل للاشتراكية الكلاسيكية في خلق مجتمع شيوعي مثالي يحقق العدالة والرخاء والاستقرار، ما حدى بالصين لإجراء مراجعات وإدخال آليات اقتصادية تعتبر من أسس الرأسمالية دون الاعتراف بذلك ما ادى إلى نوع من التلاعب بالألفاظ لحفظ ماء الوجه! وهل تطبّق المجتمعات العربية "اشتراكية ذات خصوصية معينة" مع الحفاظ على التسميات مجاملة للإمبريالية الغربية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار سيطرة القطاع العام وتوجيهه لمسار الاقتصاد وتملك الدولة لقطاعات وانشطة تجارية مهمة، فضلا عن احتكار السلطة في كثير من الدول العربية وعدم السماح بإدخال تغييرات بالرغم من وجود ديمقراطية شكلية في كثير من تلك الدول.

والخلاصة الأهم وبناءً على كل ما سبق وفي سياق أشمل.. ماذا نسمي واقع الاشتراكية في الحالات السابقة! وما أهمية المصطلح أو دوره في تأطير وتحجيم تصوراتنا وافكارنا، وهل تحجب مصطلحات معينة لمفاهيم مجردة كالحرية والديمقراطية والليبرالية والعلمانية، واقتصاد السوق والتجارة الحرة، فهمنا للواقع بشكل موضوعي وإلى أي مدى تسهم تلك المصطلحات في التلاعب بالوعي الجمعي للشعوب. وهل نحن بحاجة لكشف الغطاء عن الغموض الذي يكتنف مفاهيم وتصورات كالإرهاب ومحاربته وتسمية الأشياء بمسمياتها ليتسنى لنا اتخاذ مواقف واضحة ومحددة تجاه قضايا الواقع وفهمه بصورة أوضح وأشمل وضمان عدم التلاعب بالشعوب وضياع مقدراتها ومكتسباتها، وإذا كان الأمر كذلك فما هو الدور المنوط بنا لزيادة الوعي وخلق فهم أشمل لكل ما يدور حولنا؟

باعتقادي فإن المصطلح يلعب دوراً جوهرياً في توجيه تفكيرنا وتصوراتنا وتحجيمها، دون وعي أو إدراك، وإذا ما تجنبنا سواءا بوعي أو دون وعي تفكيك المفردات وشرحها والاتفاق على مدلولاتها، سوف نقع لا محالة ضحية للتوجيه والانصياع والسيطرة، فالأفكار والتصورات رغم شعورنا ببساطتها إلا أنها أساس كل شيء، فالتفكير المعقد والتجريد هو ما يميز الإنسان ويجعل منه كائن متفرد. تتبلور هذه الإشكالية في الخطاب السياسي والديني والاقتصادي، والإعلام يلعب دوراً جوهرياً في هذا المضمار، فكثير من الخلافات التي تؤرق واقعنا هي خلافات حول المفاهيم، ولو أننا تمعنّا في أساس الخلافات بنظرة نقدية سوف نجد أننا نتفق في المجمل حول كثير منها، والتي يكون فيها سوء الفهم سيد الموقف.

وعطفاً على دور الإعلام، ورغم التبجح بالحرية الإعلامية، والتي قد تكون موجودة فعلاً، ولكنها أشبه بحرية راكب القطار الذي يستطيع التحرك فيه بحرية مطلقة جيئتاً وذهاباً دون وعي منه بعدم قدرته على توجيه مساره، تلك الحرية المنقوصة والتي يسيطر عليها "قائد القطار"، قد توهمنا بأننا نسمي الأشياء بمسمياتها وباتفاق على معناها، دون إدراك أننا نردد مصطلحات يراد لها الرسوخ والقبول ونحن نلعب دور المروّج الذي لا يعلم ماهيّة السلعة التي يروجها. فمصطلحات كالمثلية الجنسية! والإرهاب والمقاومة والاحتلال والتجارة الحرة والتمرد والرجعية والانغلاق والليبرالية والعلمانية والشيوعية، جميعها مصطلحات يجب علينا عدم القبول بها دون تفككيها وشرحها والاتفاق على مدلولاتها ومعانيها، وهنا أورد مثال يشرح ما أرمي إليه، "فالسيارة" مفهوم مجرد، والقارئ الآن تبلورت في مخيلته صورة لدلالة هذا المفهوم، وقد ورد في القرآن الكريم في سورة يوسف.. "وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ۖ قَالَ يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ ۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ". فالخلاصة فإن القبول بالمصطلح دون تريث وتمعن وفحص، وفهمه خارج السياق المراد له قد يوقعنا في أخطاء كبرى، ويسهّل انقيادنا وانصياعنا لرغبات الآخرين دون وعي أو معرفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.