شعار قسم مدونات

كيف تغيّرت حياتي برواية؟

blogs قراءة

أهوى الكتابة كثيراً؛ فيضٌ من الكلمات ينسابُ في دماغي بينما أجلي الصحون، أضع في فم طفلتي لقمة، أكنس الأرض، أجمع الغسيل وأعجن الأفكار. وبعد أن أنتهي من كل ذلك -أو قبل- أمسك بأحد أجهزتي الإلكترونية أو قلمي، لتكون مأوى لتلك الكلمات، فتستقر عليها. كثيراً ما كنت أتجاهل رغبتي في الكتابة، معتقدة أنّ الكتابة قد وجدت لأشخاص معينين، لا أدري من هم بالتحديد! ولا ما هي صفاتهم! كل ما أدري عنه هو أنني لستُ منهم، وأنّ دخولي عالم الكتابة قد يزعج من هم موجودين من قبل، خاصّة مع وجود الكثير من الآراء التي تنتقد بشدّة تشويه عالم الأدب من قبل أشخاص يدخلونه وهم غير مؤهلين له!كنت أخاف أيضاً من أن أكون محطّة استهزاء مِن قبل مَن أعرفهم ومَن لا أعرفهم! باختصار كانت الكتابة بالنسبة لي منطقة محظورة.

لكنّي وبالرغم من كل تلك الاعتقادات، كنت كثيراً ما أضعف أمام إغواء الكلمات فأكتب؛ أشياء أقرر نشرها وأشياء أخرى أفضّل طمرها. لكنّ ذلك لم يُشبع رغبتي في الكتابة؛ فقد كنت أرغب في أن أكتب شيء أكثر دسومة، وجبة رئيسية وليس مجرّد قطعة بسكوت. وفي الأخير، وبعد خطوة غير مدروسة تماماً، جرّتني نفسي الأمارة بالحرف إلى خوض تجربة جديدة: وهي كتابة رواية! لقد قررت خوض المغامرة إيماناً بمقولة هيلين كيلر: "الحياة إمّا مغامرة جريئة أو لا شيء".

قبل البدء بكتابة الرواية كانت ثقتي بنفسي أقلّ، وقدرتي على تخطّى العقبات والتصدّي للتحديات اليومية أضعف، وربّما برز ذلك واضحاً عند استيقاظي في الصباح

بعد ذلك وجدت الرواية التي أكتبها تمسك بيدي وتأخذني إلى الأمام خطوة خطوة، تجتذب ما بداخلي من خيال وإبداع. وأصبح جلوسي معها واجتذابها لأفكاري يجعلني أشعّ بالحياة، ويخرج الطفلة التي بداخلي؛ الطفلة السعيدة باقتنائها لعبة جديدة، نعم..كتابة رواية لعبة، لعبة مسليّة جداً؛ ألعبها بخفّة وأحياناً بتثاقل، أدلف داخل الرواية كشخصيّة، لكن لا يروقني ذلك فأخرج وأعود أدراجي ككاتب. وقد ابتعد أكثر لأتحوّل من كاتب إلى ناقد.وإن تعبت من كل ذلك، أتعامل معها كشخص غريب، لم يصيغ عباراتها ولم يحيك حبكتها، فتكون علاقتي بها علاقة قارئ.

أغضب من أحد الشخصيات، وأتعاطف مع مأساة آخر، أعاتب أحدهم وأشجّع الآخر، أُشارك أحدهم في الرقص على أنغام الموسيقى، وأبكي مع أحدهم على فقد حبيب، أتحدّث إليهم كأصدقاء، وأحياناً كأعداء. ألعب بمصيرهم حسب ما أرى؛ أُعطي أحدهم كمًّا هائلاً من السعادة، وحين يغرق فيها أقتله!أُعيد قراءة الحبكة في اليوم التالي لأرى أنّ الموت لا يناسبه، فأُعيده إلى الحياة، لأقتل شخصاً آخراً غيره. لا أعلم من أين تأتيني كل تلك الرغبة في القتل! أشك أنّها تأتيني من مهام التنظيف الغير منتهية! ألم تقل أجاثا كريستي: "حبكات رواياتي البوليسية اهتدي إليها وأنا أغسل الصحون، لأنّ هذا العمل الغبي يدفعك بشكل لا إرادي للتفكير في القتل"! كانت صادقة، صادقة جداً.

حين دخلت الرواية إلى عالمي اقتحمت تفاصيل حياتي فعدّلتها وحسّنتها. لقد اندمجتُ كثيراً مع الرواية لدرجة أنّ ساعات الاكتئاب والإحباط التي كانت تصيبني خلال اليوم قد قلّت بشكل ملحوظ. وأصبح التفاؤل والإيجابية والمرح جزء من روتين يومي. قبل البدء بكتابة الرواية كانت ثقتي بنفسي أقلّ، وقدرتي على تخطّى العقبات والتصدّي للتحديات اليومية أضعف، وربّما برز ذلك واضحاً عند استيقاظي في الصباح؛ فقد كُنت أجد صعوبة في مغادرة الفراش لأنّه لا يوجد هناك ما يشدّني إلى الانطلاق، فالأيام متشابهة بشكل مُمِل، أمّا الآن فتأتيني الرواية مع أول فتحة عين لي في الصباح، وتفتح الستائر عن نافذة دماغي؛ لتتدفق الأفكار، ولاستغل فرصة نوم الأطفال، فأتسلل إلى الأوراق والأجهزة، وأتفرّد بالرواية، أنا وهي فقط؛ عاشقان يقتنصان لحظات انفراد.

كنت أقوم بأعمال المنزل بتثاقل ومماطلة، أمّا الآن فهي تغمز لي وقت انشغالي مشيرة إلى أنّها تنتظرني بفارغ الصبر؛ لنشرب معاً كوباً من القهوة، ولنحلّق في فضاء العقل الفسيح، فأجدني أؤدي أعمالي بهمّة وسرعة أكبر شوقاً في لقياها. والآن وبفضل الله أنا سعيدة وفخورة بها على الرغم من عدم قدرتي على الحكم على جودتها، وما إن كانت ستُنشر أو تُرفض، وما إن كانت ستُقرأ أو تُهمَل، فذلك كان يقلقني في البداية! أمّا الآن وبعد أن رأيت نتائجها في شخصي، فقد قلّ اكتراثي بمصيرها. هي مشروع جميل دخل حياتي، فأمسك بيدي وقادني للأفضل، لذلك أنا مُمتنة لها وأحبها أيّاً سينتهي أمرها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.