شعار قسم مدونات

"جماهير المسارح".. عبد الناصر نموذجًا!

blogs جمال عبد الناصر

"إن السياسةَ الدوليةَ مسرحُ دُمىً، يعتقدها الجمهورُ حقيقةً" بهذه العبارة وصف (مايلزُ كوبلاند) طبيعةَ السياسةِ العامة، وأظنُه عنى بشكل واضح السياسةَ العربية إبّان الأربعينياتِ من القرن الماضي، فمن هو كوبلاند ولماذا نضع لعبارته هذا الاهتمامَ في بداية المقال؟!

   

‎يُعدُّ كوبلاند من مؤسسي وكالة الاستخباراتِ الأمريكية (CIA)، وقد أمضى القسمَ الأكبر من أيامه في الشرق الأوسط، وكان وسيطَ أمريكا للعديد من القُِوَى، كما شغل وظيفة "مستشار التخطيط السياسي للشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأمريكية" ولكن تلك الوظيفةَ لم تكن إلا غطاءً دبلوماسيا لتحركاته في المنطقة كما يحكي هو بنفسه.. وقد ألف الكثير عما خفي تحت هذه الأغطية، لكننا سنضرب صفحا عن سيرته الذاتية لنلقيَ الضوء على تلك "الدُّمى" التي يعتقدها الجمهور حقيقةً! ونعيَ كيفيةَ استمرار استغفالها؟

    

‎في يوم ما، تعرفتُ صُدفة في القاهرة على رجل ثمانيني بدا لي أنه ليس مصريًّا، وخلال حديثِنا ومن لهجته تبين لي أنه من إحدى الدول الخليجية، سألته: عفوًا يا عم.. من أيُّ البلاد أنت؟.. رد علي بصوتٍ يملؤه الفخر: "أنا حجازيّ". ، كم استغربت وقتها هذه الإجابة، فلِمَ لم يقل أنه سعودي؟ فالسعودية تشمل الحجاز ونجدَ، ولم يعد لتلك التسميةِ جدوىً تذكر في وقتنا الحاضر إلّا في الداخل السعودي ربما، على أيَّةِ حال أثارت هذه الإجابةُ فضولي أكثر من الذي كان في بداية الحديث معه، فقررت أن أعرف ما قصتُه؟! إلى أن جاء يوم ودعاني على العَشاء في منزله.. فلبيتُ الدعوة على توجسٍ، وما إن دخلتُ شقته الصغيرةَ إلَّا وقد ملأت عينيَ صورُ الرئيس المصري (جمال عبد الناصر) على حوائطها، وعند العشاء تحدثنا عن السياسة قليلًا.. وعلمتُ أنه كان معارضا للدولة السعودية بل وما زال، ولم يُخْفِ عني أنه كان أحد الضباط السعوديين الذين درسوا في مصر، وأنه وبعض َرفاقه خططوا لعملية انقلاب على الملك (فيصلَ بنِ عبد العزيز) وتأسيس ِحكمٍ عروبي جديد بدعم من (عبد الناصر) نفسه، لم أكن أُدرك وقت ذاك أن عبدَالناصر ساهم في شيء من ذلك، لكنني أدركت هذا بل وبشكل أوسع كيف وأين كانت مساهماتُ عبدِالناصر العروبية في المنطقة؟

  

غالبًا ما تتصرف الدولة بشكل لا تهدف معه إلى إحراز أي نجاح ضمن اللعبة، بقدر ما تهدف إلى حشد التأييدِ الجماهيري لزعيمها -بالضبط كما حدث مع عبدالناصر

‎في كتاب (لعبة الأمم) لمؤلفه (مايلز كوبلاند) تحدث الكاتب عن الكثير مما كان يدور في دهاليز وكواليس السياسة في الوطن العربي، فبعد تسلّمِ الولايات المتحدة الأمريكية زمام السيطرة على منطقة الشرق الأوسط خلفًا لبريطانيا التي كانت قد بدأت بالتراجع في المنطقة، بدأ عهد جديد من أشكال الحكم يظهر على الساحة، هذه الأشكال ونجاحاتُها وفشلها، بل وتصارع القوى داخل الولايات المتحدة الأمريكية على دعم من والتخلِّي عن من، معتمد على لُعبة أسماها مايلز "لعبة الأمم"، ولفهم اللعبة لابد أن تضع أمامك بعضَ القواعدِ أذكرُ منها:

-غالبًا ما تتصرف الدولة بشكل لا تهدف معه إلى إحراز أي نجاح ضمن اللعبة، بقدر ما تهدف إلى حشد التأييدِ الجماهيري لزعيمها -بالضبط كما حدث مع عبدالناصر-، من السذاجة بمكان أن يُفسَّر أيُ تصريح رسمي حول السياسة الخارجية بحُسن نيَّة، لأن المناورة شرط أساسي لأيِّ زعيم في اللعبة، فهو يُظهر ما لا يُبطن، ويقول شيئًا وهو يعني به شيئًا آخر، وما أكثرَ تلك التصاريح الرسمية وما أكثرَ الساذجين محسني النيِّة وأحفادِهم في بلادنا!

  

‎المُثير أن كوبلاند كان صديقًا شخصيًا لعبد الناصر نفسه.. وهو يحكي في كتابه عن تفاصيلٍ خطيرة قد لا يتصورها كثير ممن ما زالوا حتى الآن يؤمنون بالقومية العربية، ‎يقول كوبلاند واصفًا عبدَالناصر وناصريَّته: "عندما قام عبد الناصر بثورته كمصري، ما لبث أن اقترب من الزعامة العربية، وأخذت كلمة العرب تدخل في الاستعمال. وإن كان ما يعرفه عن العرب لم يحرِّك فيه محبته لهم، فالعراقيون في نظره متوحشون، واللبنانيون مرتشون ومنحلّون، واليمنيون أغبياء متخلفون، والسوريون غشاشون، وجميعهم لا يشعرون بالمسؤولية، ولا يُوثق بهم".، والمضحك المُبكي في الآن نفسه أن كل تلك الشعوب كانت تهتف له كلما تكلم عبر راديو القاهرة -صوتَ العرب- الذي كان يصل لمعظم البلاد العربية.

  

‎تحدث كوبلاند عن التخطيط والدعم الخارجي للانقلاب الأبيض عام (1952) على الملك فاروق بقيادة الضُّباط الأحرار الذين كان يرأسهم "ظاهريّا" (محمد نجيب) أول رئيس جمهوري بعد الملكية، ويَذكر كيف كانت المراسلاتُ بين عبد الناصر والأمريكيين وقت ذاك حتى إذا ما تمَّ الانقلاب، انقطعوا عن التواصل لئلَّا تُشار لأي أحد أصابعُ الاتهام بالعمالة أو بالتدخل الأمريكي، لكن وبعد مدة عاد التواصل، ثم يذكر كيف كان دعم السوفييت لعبدالناصر وما الدوافع لذلك، وكيف كان يُستغل هذا التقاربَ المصري السوفييتي كورقة ضغط من عبدالناصر أحيانًّا إذا ما تعارضت آراء بعض المتنفذين داخل دوائرِ السياسة الأمريكية حول إدارة الملف المصري.

 

لم يكتفِ كوبلاند بذِكر الشأن المصري وحده، بل وتحدث عن تدخل عبد الناصر في محاولة تغيير أنظمة عربية بهدف بسط نفوذه بشكل أوسع حيث كان يعتقد نفسَه أنه الزعيم العربي الوحيد الذي يستطيع أن يجمع أكبر عدد ممكن من البلاد العربية تحت غطائه العروبيّ، وكانت البلدان العربية التي شملها نفوذ عبد الناصر هي: العراق، السعودية، سورية، لبنان، الأردن، الكويت وليبيا، يقول كوبلاند: "إن القومية العربية قُوةٌ بالغةُ الأهمية في تخطيط عبد الناصر للأمور ولكن أهميتها تكمن كأسطورة وليست كحقيقة"

  

ما زلت أتساءل: هل من المعقول أن يحيا شخص على فكرة ويدفع من أجلها ثمنًا باهظا، ثم تأتي أنت وتُقنعه بأن تلك الفكرة كانت وهمًا، وذلك الزعيم لم يكن يعبأ أصلا بما جعلك تُؤمن به!

يذكر الكاتب أيضًا أن عبدَالناصر وبعد أن فهم اللعبة بشكل جيد بدأ باللعب مع الغرب بطريقة تجعله يصل معهم إلى مدى بعيد في الأخذ والرد وكيفية الاستفادة من ذلك، فبقدر ما كان عبد الناصر يتدخل في شؤون البلاد الأخرى، بقدر ما كانت أمريكا مستعدة للعطاء والمساعدات الأمريكية، وكما كانت الحكومة الأمريكية تتحدث عن الحياد وعدم أخلاقيَّته، "كنّا نحن في المخابرات الأمريكية يحركنا الحياد أكثر مما تحركنا الصداقة" كما قال كوبلاند.

 

وكما هو معروف في لُعبة السياسة: لا صديقٌ دائم، ولا عدو دائم، بل مصلحةٌ دائمة.. ويَتغيَّر الأعداء والأصدقاء بحسب تغيّر المصلحة، والمصلحة فقط، لم يستثن الكاتب ذكرى الحرب المصرية على إسرائيل.. لكنه وبشكل ما، بدت بعض التناقضات واضحة فيما يقول، مما دفع المترجم (د. منذر الحايك) ليقول في ختام مقدمته للكتاب: "إن المتابع المدقّق لما ورد في الكتاب لن تفوته حقيقة الكثير من الأفكار المتحيزة والمعلومات المضللة والتلاعب بالألفاظ، لكن الاطلاع على ذلك كله هو ضرورة لابد منها"

     

ما زال الرجل الثمانينيّ العروبيّ الذي رأيته، يؤمن بعبد الناصر، وما زالت صور ذلك الزعيم تملأ منزله، على الرُّغم من أنه دفع حياتَه كلَّها ثمنًا لذلك.. ليس بالموت كرفاقه الذين كانوا معه في التخطيط للانقلاب؛ فما إن كُشِف أمرُهم إلا وقامت السلطات السعودية بالقبض عليهم وإعدامهم جميعا كما أخبرني هو، وبقي هو في القاهرة تحت الحماية الناصرية، وتحت مسمّى "لاجئٌ سياسي سعودي" ولا يستطيع أحد من أبنائه السعوديين أن يُقابله أو أن يراه مرة أُخرى، ولا يستطيع هو العودة للحجاز آمنًا على حياته التي قد لا تساوي شيئا في وقتنا الحالي، ولن يزيدَ اعترافه أو إنكاره للسعودية شيئا.

    

لكنني ما زلت أتساءل: هل من المعقول أن يحيا شخص على فكرة ويدفع من أجلها ثمنًا باهظا، ثم تأتي أنت وتُقنعه بأن تلك الفكرة كانت وهمًا، وذلك الزعيم لم يكن يعبأ أصلا بما جعلك تُؤمن به!! يا الله.. كم في المسارح من دمىً!، وكم في الجماهير من مُغَفّلين ضائعين!.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.